مقالات

مآسٍ غابت في صدور الضحايا بقلم / أبوبكر كهال

1-Oct-2015

عدوليس ـ نقلا عن مجلة الدوحة

حتى وقت قريب، كان المهاجرون الإريتريون الأكثر تضرُّراً من الكوارث والمآسي الناجمة عن الهجرة المعروفة بالسريّة أو غير الشرعيّة. ففرارهم المستمر من البلد، منذ أكثر من عقدين من الزمان، نتج عنه- بحسب تقارير منظمة الهجرة الدولية، والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ومنظمات دولية وإريترية تُعنَى بالهجرة وبحقوق الإنسان- آثار سلبية أصابت منظومة المجتمع الإريتري، عامة،ً بالعطب. ولأن جُلّ هؤلاء المهاجرين هم من الفئة العمرية المنتِجة فإن الفراغ الذي خلّفوه شلَّ عجلة الاقتصاد في البلد، وأثّر في برامج التنمية فيه.ومن الطبيعي أن يحدث ذلك، بخاصة إذا علمنا أن الفاقد من الشباب الإريتري نتيجة للهجرة السريّة بلغ -بحسب تقديرات الخبراء- ما نسبته 20 % من نسبة السكان البالغ عددهم 5 ملايين نسمة. ووفقاً للمنظمات المعنية والكثير من التقارير الصحافية، فإن هؤلاء المهاجرين كانوا دائماً عُرضة للاستغلال البشع من قِبَل عصابات التهريب.

فالشخص الذي يحاول عبور الحدود الإريترية خفيةً نحو السودان، ثم يواصل سيره إلى ليبيا عبر رحلة صحراوية مضنية، ثَمّ ركوب البحر المتوسط صوب القارة الأوروبية، عليه أن ينجو أولاً من المخاطر والعقبات العديدة، كالخطف من قِبَلِ عصابات التهريب التي تقوم بذلك للحصول على فدية مالية، والاتجار بالأعضاء البشريّة الذي تمارسه عصاباتٌ مُتخصّصة. فاللاجئ الإريتري، بالنسبة إلى هؤلاء، يمثّل منجماً ينبغي استغلاله عبر سرقة أجزاء حيويّة من أعضاء جسده؛ كالكلى والقرنيات وأجزاء من الرئتين.وجُلّ هذه الحوادث اللاإنسانية موثّقة ومعلومة، وكان الأستاذ حمدي العزازي أبرز مَنْ كشفها للعالم، وهو من سكان صحراء سيناء، ويرأس مجلسَ الإدارة في إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تدافع عن «الغلابة» الذين توقع بهم الأقدار في ذلك الجحيم.. والحقّ أن العزازي كرّس الكثير من الجهد والوقت لمحاربة تلك الظاهرة، ولِمَدّ يد العون للمهاجر الذي يتم افتكاكه من أيدي المجرمين. وقد تمكّن عبر اتصالاته بالهيئات الدولية ذات العلاقة، من عكس ما يلاقيه المهاجر سيّئ الحظ بسبب محاولات عصابات الحصول على فدية من ذويه، عبر تعريضه لصنوف التعذيب المختلفة، كإذابة البلاستيك المشتعل في جسده، وخلع أظافره، وحرق المواضع الحساسة في جسده، واغتصاب الإناث.يحدث كل هذا بهدف إسماع ذوي المهاجرين صرخاتهم للتعجيل بدفع الفدية. وفي حال عجز الأهل عن الدفع، يعمد المهربون إلى نزع الأعضاء القابلة للبيع بعد تخدير الضحية علي أيدي أطباء يسرقون بمهارة ما يريدون ويعرفون كيف، وأين يسوّقونها.هذا ما تَمّ كشفه بعد معاينة جثث مهاجرين من إريتريا والسودان وبلدان أخرى تَمّ العثور عليها في مواقع عِدّة في الصحراء. وقد أظهر التشريح الطبي الذي أُجْرِيَ على تلك الجثث، أنها دُفنت عقب انتزاع أجزاء حيوية منها، كالكلى، والقرنيات، ومبايض الإناث أيضاً.نتائج ضائعةإن النتائج المأساوية التي تفرزها ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ستظل، حتى بالنسبة للعارف ببعض بواطنها وأسرارها، مطويةً في ظلمات دهاليز الهجرة، وسيغيب الكثير من تلك الأسرار في صدور من غيّبهم الموت.فلا التجربة الشخصية عبر خوض غمار الهجرة بقادرة على تقديم شهادة شاملة ودقيقة، ولا الاستعانة بالمشاهدات والمعلومات المستقاة من أفواه عشرات المهاجرين تضيء المساحات المعتمة في عالم الهجرة السري.فمسمّى «الهجرة السريّة» يعرّف الظاهرة ويدلّ عليها كفعل يمارَس في الخفاء. غير أن التجارب تتمايز وتختلف، بعضها عن بعض من حيث طبيعة النتائج والحيثيات. وعليه يمكننا القول إن صور المآسي تتعمّق باطراد كلما اتسعت التجارب، وإن الحالات تتعدّد بتعدّد المهاجرين أنفسهم، أي إن لكل مهاجر لقي حتفه أو بقي على قيد الحياة تجربته الخاصة التي لا تشبه سواها. والمحزن أن «الميديا» مهما اجتهدت وغاصت في تربة الهجرة، تبدو قاصرة عن بلوغ الجدار السري الذي يُخفي النتائج الكارثية التي اعتاد العالم على مشاهدة قشرتها العلوية فقط، على شكل جثث تطفو فوق الماء، هنا وهناك، وتوابيت متراصة لغرقى أفلتوا من السمك، لكنهم لم يفلتوا من الموت.فخطوط الهجرة السريّة من شواطئ شمال إفريقيا نحو أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، والتي دُشنت منذ عقدين ونيف من الزمان، افتقرت قوارب المهاجرين فيها إلى ما يساعدها على الملاحة أو طلب النجدة. فعلى مدى سنوات متطاولة، كانت عشرات القوارب تغرق ليطوي الصمتُ أجساد المهاجرين الذين كان كثير منهم من إريتريا، وكان العام 2006 الأسوأ من حيث الخسائر في الأرواح، حيث ظهرت الجثث على جانبي المتوسط بصورة ملحوظة، واكتظت ثلاجات الموتى، في مستشفيات العاصمة الليبية طرابلس، بجثامين الضحايا.في تلك الفترة أطلق الإريتريون على تلك القوارب اسم «تيتانيكات» (جمع «تيتانك»)، في إحالة إلى تلك السفينة الأشهر في تاريخ الفواجع البحَرِيّة. وهو اسم تُستشَف منه السوداوية التي كان ينظر بها المهاجر، ويشير إلى إقرار متواطئ بالمصير الذي ينتظر قاربه الذي سيبحر فيه ذات يوم. من هذا الاسم الفاجع استقيت عنوان روايتي «تيتانيكات إفريقية» التي تعالج موضوع الهجرة.ولطالما سمعت شكاوى مهاجرين من غدر سماسرة العملة، فالقادم من أقصى الغرب الإفريقي إلى شواطئ شمال إفريقيا، عبر رحلة نكدة رأى فيها الموت رأيَ العين، قد يكتشف عندما يتقدّم للدفع وحجز موقع في المركب الذي سيجتاز به البحر وصولاً إلى أوروبا، أن الدولارات التي جمعها وخاطها بعناية في طياتِ ملابسه الداخلية، «مضروبة»، أي مزورة ولا تصلح لشيء، وأنه كان ضحية لعملية غش غادرة، وستكلفه الآن الكثير، وسترغمه على العمل شهوراً طويلة لجمع دولارات «حيّة» حقيقية تمكّنه من شراء تذكرة بحرِيّة، بلا عودة.ابحِرْ، واضعاً شعاع الشمس على خدك الأيمنإنها الوصيّة الأهم التي لا يفتأ المهرِّب الكبير يكرّرها على مسامع الربان الذي سيبحر بالمركب، فالحرص على أن يظلّ شعاع الشمس ساقطاً على صفحة خده اليمنى هو البوصلة الوحيدة والمضمونة للوصول إلى جزيرة «لامبدوزا» الإيطالية في تلك السنوات البعيدة. وما دام الملّاح الذي ينطلق من الشواطئ الليبية حافظ على ذلك، فإن رحلته ستنتهي حتماً في «لامبدوزا» أو على اليابسة الإيطالية المحيطة بها.لقد كان تجنب خفر السواحل الليبية والإيطالية والمالطية، من أهم مهمات الملاح في السنوات الأولى لتصاعد وتيرة الهجرة نحو أوروبا، وذلك كي لا يُعاد المركب ومن فيه إلى موضع الانطلاق الأول؛ الأمر الذي يعني ضياع كل شيء.. الأحلام والأموال التى دُفعت من أجل العبور، وربما خوض التجربة الأسوأ، أي السجن، بتهمة التسلل.وقد شهدت السنوات الأخيرة تطويرَ المهرّب عمله وتوفيره وسائلَ ملاحية تُعين الربان على الملاحة، مثل أجهزة (جي بي إس) ووسائل الاتصالات كأجهزة هواتف الثريا للاتصال وطلب النجدة في حال تعرُّض القارب للعطب أو إذا أصبح مُهدّداً بالغرق.فالذين يقودون القوارب يمكنهم الاتصال بكل موانئ وخفر سواحل دول المتوسط طلباً للنجدة، على العكس من نظرائهم القدامى الذين كانوا يفضّلون الموت على الاتصال بخفر السواحل حتى لا يتبخّر الحلم بإعادتهم من حيث أتوا. لهذا كان الموت غرقاً هو أكثر الهواجس حضوراً في ذهن المهاجر، بعد أن ترسخ كمعلومة متجذرة موروثة من تجارب سابقة كثيرة حصد فيها البحر والصحراء أرواح المئات.لقد كانت حالات ضياع العربات التي تحمل المهاجرين في الصحراء الواقعة بين السودان وليبيا من الوقائع المعتادة، كما أن مشاهد هياكل تلك العربات التي تاهت وتعطّلت بعد نفاد الوقود الذي اُستُهلك أثناء الدوران في متاهة الرمال منذ أشهر وقد تناثرت حولها الهياكل العظمية للمهاجرين، كانت من المشاهد المألوفة عندما تمرّ بها عربات المهاجرين الجدد.وكثيراً ما سمعتُ المهاجرين وهم يرددون عبارات مثل «عندما تكون على متن المركب انسَ أنك في الحياة»، و«الكل يكره لحظات الصعود إلى المركب، لأنها- ببساطة- قد تعني النهاية»، و«أغلب مَن عرفتهم فعلوها في سراويلهم عندما بدأت أخشاب القارب بالتخلُّع في حلكة ليل البحر». العبارة الأخيرة حكاها ليّ أحد الناجين من الغرق في طرابلس. معظم الراغبين بالهجرة كانوا يدركون المخاطر اللانهائية لرحلات قوارب الموت، ومع هذا كانوا يرتمون عليها، ولسان حالهم يقول إنها لعبة «الروليت».. إمّا أن أو إمّا أن!.وماذا بعد؟!الخسائر الفادحة في الأرواح التي بتنا نشاهدها بشكل يومي، تمكّنت في السنوات الأخيرة من هزّ الضمير العالمي. فتحرّكت ماكينات السياسة في الاتحاد الأوروبي، وابتدعت برامج وتدابير بهدف إنقاذ الأرواح تحت مسمى «مارينوستورم»، ولكنه لم يحقّق المأمول منها، وظلّت الأرواح تُفقد. كما لم ينجح برنامج «فرونتيكس» الذي هدف لحراسة الحدود، والأحداث الأخيرة وتدفق اللاجئين السوريين وغيرهم بتلك الأعداد الكبيرة تؤكد أن مهمة هذا البرنامج في حكم المُلغاة.الأمل الآن بعد هذه الدروس والتجارب، أن تستيقظ أوروبا وتتحرّك في المسارات السياسية، وتساعد على استحداث التوافقات وصنع السلام في المنطقة التي أصبحت أقطارها تتفجّر الواحد تلو الآخر* كاتب إريتري يقيم في الدنمارك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى