مقالات

ورقة للنقاش :إرتريا كوطن أم ..المشكلات والتحديات التاريخية والراهنة :البروفيسور: تسفاظيون مدهاني *

4-Feb-2013

hglv;.

جامعة بريمن- ألمانيا
بريمن: سبتمبر 2012
تـــرجمــة: زين العابدين محمد علي “شوكاي”
توضيح وشكر
هذا المنشور تم إعداده كدراسة واضعين بعين الاعتبار المؤتمر الذي يتم الإعداد له للانعقاد من 5 وحتى 7 أكتوبر في مدينة كاسل الألمانية لجبهة تحرير الوطن الأم إرتريا. والهدف من ذلك هو المساهمة في إثراء النقاش بصورة ما سواء في المؤتمر المزمع عقده، أم في النقاشات المتعلقة بالوطن الأم إرتريا في أي مكان وزمان آخر. وهذا هو المبرر في نشره مسبقًا تحت مسمّى “ورقة للنقاش”.

تعتبر هذه الدراسة مبادرة شخصية مني، وليس هناك أية حركة أو أي تنظيم دفعني أو حثني على القيام بها. وأشير هنا إلى أنني أتحمل وحدي كامل المسؤولية بالنسبة لمحتوى هذه الوثيقة ونشرها. هناك إخوة قدموا لي مساعدات هامة وبمختلف الطرق للقيام بإعداد هذه الدراسة وإكمالها. فالبعض منهم أرسل إلي وثائق، والبعض الآخر قدم لي معلومات، كما أن البعض منهم قدم لي أسئلة هامة تتعلق بمحتوى الوثيقة عندما قمت باستشارتهم، بينما كانت الوثيقة في طور الإعداد، وأبدوا آراءهم بسخاء. لهؤلاء جميعًا أقدم امتناني العميق. تسفاظيون مدهاني بريمن: سبتمبر 2012إرتريا كوطن أمالمشكلات والتحديات التاريخية والراهنةتسفاظيون مدهاني بريمن – ألمانيا عدد الإرتريين الذين يرغبون في الاستماع إلى الأخبار عن بلدهم في مثل هذه الأيام قليل، أو آخذ في التناقص، والأخبار التي تأتي إلينا هي أخبار مؤسفة ومقلقة. وحتى في وسائل الإعلام العالمية فوطننا في الغالب الأعم، يتم ذكره بالترابط مع المآسي والدمار. أما المفاهيم الأخرى مثل الرفاهية والاستقرار أصبحت مفاهيم غريبة على وطننا إرتريا. ويمكن لأي مراقب منصف تقريبًا أن يرى بوضوح أن بلادنا تمر بأسوأ حالات الذل والهوان. فالمجتمع الإرتري بأسره مضطهد ويعاني في كافة مناحي الحياة بصورة لم يشهد لها مثيل في تاريخه. وأن الوطن ينادي لإنقاذه بصورة عاجلة، مطالبًا أبناءه بتنظيم صفوفهم للنضال في جبهة واحدة للدفاع عن الوطن الأم من أجل تأكيد الوجود. وبالتالي لا تدعونا هذه الأوضاع إلى البحث والنقاش حول مفهوم الوطن الأم إرتريا فقط، بل يتطلب منَّا ذلك. وفي استجابة موضوعية لهذا الطلب ها أنذا أقوم بدوري بنشر رسالة للنقاش اعتقادًا مني بأنها تسهِّل عملية الحوار، وذلك بعنوان: “إرتريا كوطن أم – المشكلات والتحديات التاريخية والراهنة”.وقبل البدء في رسالتي هذه أرى من الضروري أن أتطرق باختصار لوفاة رئيس الوزراء الأثيوبي الأسبق ملس زيناوي. ففي هذه الأسابيع يدلي المراقبون للأوضاع السياسية في منطقة القرن الأفريقي بتقييماتهم وشهاداتهم المتعلقة بوفاة رئيس الوزراء الأثيوبي السابق ملس زيناوي. وقد أعرب الكثير منهم، سواء أكانوا إرتريين أو إثيوبيين أو أجانب، عن مدى حزنهم على وفاته بدرجات متفاوتة.وبهذه المناسبة أرغب أنا بدوري أيضًا في أن أعبر عن حزني لرحيله في هذه السن التي يمكن أن يقال عنها إنها سن مبكرة، بصرف النظر عن عدم قناعتي ببعض الأهداف والممارسات السياسية للسيد ملس ونقدي لها. وأتمنى لأهله وذويه الصبر. والأسباب التي تجعلني آسف على رحيل السيد ملس في هذه السن المبكرة كثيرة، أحد هذه الأسباب هو التالي: تعريف السياسيات التي انتهجها السيد ملس تجاه إرتريا ونتائجها يمكن أن تكون مثار جدل. وهنا لا أرى أية ضرورة للدخول في تفاصيلها. ولا يمكنني أن أنسى حتى لو لم يكن الأمر مثار غضب بالنسبة لي تلك البرامج التي سعى إلى تنفيذها والضارة عمليًّا باستقلال إرتريا الذي كان يبدو في الظاهر أنه كان حريصًا عليه. وأُقدِّر شخصيًّا أنه كان يمكنه التراجع عن بعض ممارساته، والاعتذار ممن تضرروا منها، بعد القيام بإعادة تقييمها، كما ينبغي على كل واحد منّا أن يفعل، وذلك بعد أن يكون قد اكتسب النضوج السياسي العميق الذي يمكن اكتسابه بعد سنوات العمل الطويلة، فيما لو كانت قد كتبت له الحياة والصحة. ويؤسفني كثيرًا عدم حصوله على الفرصة للقيام بمثل هذا العمل. مضى السيد ملس وقد ترك وراءه تراثًا مثيرًا للجدل. فالبعض منّا يثني عليه ويدعو له بالخير، والبعض الآخر يلومه ويدعو عليه بالشر. وكثيرًا ما يكون موت الزعماء مثار خلاف بالنسبة للتقييمات الصادرة بحقهم. بعضها يميل إلى الجوانب السلبية وبعضها إلى الجوانب الإيجابية، وهذه هي الحقيقة. إلاّ أن الخلافات المتعلقة بالسيد ملس كونها تتميز بالحدة والتباين الكبيرين، فحتى لو لم تكن غريبة، إلا أن لها مدلولات عميقة. فقوى المعارضة الإرترية ظلت تردد خلال الفترة الماضية كلمات الثناء الوافر في حق الراحل باعتبار أن الموت في أعرافنا الشعبية يعتبر حدثًا جللًا. لذا يبدو أنه عندما يرحل شخص ما هناك ميل في الماضي والحاضر لإبراز الجوانب الإيجابية فقط. وحتى لو كانت هذه هي الحقيقة، كانت هناك بعض الاطراف الإرترية التي نشرت آراء حول رئيس الوزراء الراحل ملس زيناوي والتي كانت مدعاة للتفكير. خاصة تلك التي تناست الجرائم التي ارتكبت بحق ثورتنا، والتي كانت في محتواها لا تبدو متسقة مع المشاعر الوطنية الإرترية مما أثار حفيظتي بعض الشيء. وقد تنبهت لهذا الأمر بمحض الصدفة، وذلك أثناء إعدادي هذه الدراسة المتعلقة بالنظر إلى إرتريا كوطن أم، وطبيعية تركيبتها، والمشكلات والتحديات التي تواجهها، حيث اطلعت على بعض الكتابات التي صدرت عن بعض قوى المقاومة. وبحكم ملاحظتي الفرق بين الأفكار التي كنت أقوم بتسطيرها والكتابات التي كنت أقرأها فقد اضطررت للقيام بالمزيد من الدراسة حول الموضوع. وبالتالي أود أن أشير إلى أن هذه المناسبة منحتني الفرصة لأن أتعمَّق وأُوضِّح أكثر الموضوع الذي سأقوم بتناوله. -1-وللدخول في موضوعنا الرئيسي، إرتريا بحاجة إلى قوة تنقذها على شكل جبهة للدفاع عن الوطن الأم. ماذا نعني بجبهة الدفاع عن الوطن الأم؟ عند الحديث عن الوطن الأم، والذي سنتطرق إليه لاحقًا بشيء من التفصيل، لا نعني فقط الأرض والإنسان، بل هو مفهوم شامل يضم أيضًا التراث والقيم والتاريخ والحضارة. وفيما يخص إرتريا كل هذه القيم مهددة فيها اليوم، بل الوطن مهدد بالزوال من أساسه، كما أن هناك قلق من أن تتقطع أواصر المجتمع من جذورها. وفي هذا الوقت بالتحديد مطلوب من كل إرتري يعتبر إرتريا وطنه الأم خوض النضال من أجل تحريرها. فإرتريا بلد من بلدان العالم الثالث، وبالتالي فهي لم تأت نتاج تطور طبيعي نسبة للتفاعلات التاريخية بين مكوناتها، بل هي صنيعة عمليات الترقيع الفوقية التي قام بها المستعمر الأجنبي الإيطالي. عليه ظلت المرتفعات الإرترية جزءًا من شمال إثيوبيا (الحبشة)، أما المنخفضات الغربية، رغم أنها كانت تتكون من كيانات قديمة تتمتع بحكم ذاتي، إلاّ أنها كانت ترتبط بين حين وآخر بمنطقة شرق ووسط السودان، بما فيها سنّار. وعندما انتهى الاستعمار الإيطالي في عام 1941، كانت هناك مزاعم تاريخية لبلدان مثل إثيوبيا ومصر اللتين طالبتا بأن تمنح لهما إرتريا أو أجزاء منها. كما كانت هناك مصالح استراتيجية لكل من بريطانيا وإيطاليا. وبالتالي وضعت في تلك المرحلة عمليًّا قضية السيادة الوطنية الإرترية ومدى أهلية إرتريا كوطن أم لمكوناتها موضع تساؤل. ولفهم تلك الأوضاع علينا مراجعة الأجواء السياسية التي كانت تسود في إرتريا حينها. فعندما هُزِمَت إيطاليا، احتلت بريطانيا إرتريا كممثل لقوات التحالف، وأنشأت فيها بعد فترة وجيزة فقط إدارة عسكرية. هذه الإدارة بذلت أقصى ما تستطيع لربط مستقبل إرتريا بما يتلاءم مع المصالح الاستعمارية البريطانية في المنطقة. ولفهم الأسلوب البريطاني علينا أن نتنبه لخطتين كان مهندسو السياسية الخارجية الإيطالية قد وضعوها للتعامل مع إثيوبيا، وهاتان الخطتان هما “سياسة شوانا”، و”سياسة التجرنيا”. وكانت الخارجية الإيطالية تُفضِّل “سياسة شوانا” التي تعتمد على خلق علاقات حسن جوار بين الإمبراطورية الإثيوبية والمستعمرات الإيطالية المجاورة لها. ولتنفيذ مثل هذه الخطة كان على ساسة إيطاليا أن يدعموا حصر السلطة في أديس أبابا وضواحيها بأيدي إقطاعيي إقليم شوا.أما “سياسة التجرنيا” والتي كانت تحظى بدعم مكتب المستعمرات الإيطالي كانت تناهض “سياسة شوانا”. وكانت ترجمة هذا المفهوم عمليًّا يتمثل في دعم وتشجيع الأطراف التي تناهض الحكومة المركزية في شوا. وفيما يخص إقليم “تجراي”، كان المبدأ الذي تنطلق منه “سياسة التجرنيا” تقوية القيادات الإقطاعية التقليدية فيه بهدف تفكيك وإضعاف سيطرة حكومة شوا. وفي الفترة التي أنشأ فيها البريطانيون إدارة عسكرية في إرتريا، كانت لديهم محاولات للسيطرة على إثيوبيا بصورة استعمارية بعد أن استقلت من الاحتلال الإيطالي في عام 1941. ولتنفيذ مثل هذه الخطة اختار البريطانيون “سياسية التجرنيا” من بين السياستين اللتين تم ذكرهما، لتكون موجِّهة لسياساتهم. كما أن مقارباتهم للشأن الإرتري جاءت بصورة تخدم “سياسة التجرنيا”. وباعتبار أن الإدارة العسكرية البريطانية كانت تنتهج فيما يخص إرتريا “سياسة التجرنيا”، كان هدفها الرئيسي “إلحاق تجراي بإرتريا”. وعندما يتم فصل تجراي تقريبًا ويتم إلحاقها بإرتريا، يمكن للبلدين معًا أن ينشئا ما يعرف “بوطن التجراي”. هذا الوطن الجديد، وبعد خضوعه للانتداب البريطاني، يمكن ربطه بإثيوبيا غير المركزية بعلاقة غير متينة. وربطًا بهذا الموضوع كانت سياستهم تهدف إلى تجزئة إرتريا، بربط المنخفضات الإرترية بالسودان، بحكم أن السودان كان خاضعًا في تلك المرحلة للسيطرة البريطانية، وكانت بريطانيا تعتبره معقلًا مأمونًا لها. ووفقًا لهذا البرنامج كانت الشواطئ الإرترية التي تقع جنوب مدينة مصوع برمتها ستلحق بأثيوبيا. وبالتالي المرتفعات الإرترية حتى مصوع بالإضافة إلى تجراي كان من المقرر أن ينشأ فيها “وطن التجراي”. وتنفيذًا لهذا البرنامج كان الحاكم العسكري البريطاني ستيفن لونغريغ يتحرك لإيجاد مفهوم “المشاعر الوطنية التجراوية”، التي وجدت لها مكانًا في الفضاء السياسي الإرتري. وبالتالي كثف البريطانيون تحركاتهم لتسود المشاعر التجراوية في أوساط المسيحيين المتحدثين بالتجرينية من أبناء الهضبة. ولتمرير هذا الهدف كان على الشعب الإرتري أن ينخرط في الحراك السياسي ليتم استهلاك طاقاته في نقاشات وخلافات. وتحقيقًا لذلك أنشأوا بسرعة حرية الصحافة وحرية تنظيم الأحزاب السياسة في البلاد، هذا الأمر وإن كان مطلوبًا في حد ذاته، ويساعد على التطور، لكن البريطانيين قاموا به لحماية مصالحهم، ولزرع الشقاق في صفوف شعبنا، وبالتالي من المهم وضع ذلك في الحسبان. ففي الوقت الذي كانت فيه الأجواء السياسية في إرتريا متأثرة سلبًا بالمؤامرات التي كانت تحيكها بريطانيا، كان جيل الآباء قد انخرط في العملية السياسية لتقرير مستقبل بلادهم. وكان ظهور الخلاف فيما بينهم حول مصير إرتريا أمرًا حتميًّا، وهذا ما حدث بالفعل. فالبعض منهم كان يدعو إلى وحدة كاملة مع إثيوبيا، بينما كان البعض الآخر يدعو إلى الاستقلال الكامل. وكان هناك من يرى أن تخضع إرتريا تحت حماية الأمم المتحدة أو الحماية البريطانية. أما أولئك الذين كانوا يسعون إلى محو إرتريا من الوجود بتقسيمها بين السودان وإثيوبيا لم يألوا جهدًا لإذكاء جذوة التقسيم. -2-وكان من بين الأحزاب المنادية بالاستقلال والذي كان اسمه الرسمي “حزب الحرية والتنمية الإرتري- إرتريا للإرتريين”، كان العامة كانوا يطلقون عليه اختصارًا حزب “إرتريا للإرتريين”، بينما كان البريطانيون يطلقون عليه “الحزب الليبرالي التقدمي”. كان موقف هذا الحزب، خاصة في بداياته، توحيد إرتريا مع الجزء المتحدث بالتجرينية جنوب نهر مرب في تجراي وما بعدها، ليُشكِّل وطنًا ذا سيادة بعد فترة وصاية بريطانية. وهذا التوجه عرف لاحقًا ب”تجراي – تجرينيي”. بالتالي شعار “إرتريا للإرتريين” كان في حقيقته مشروع ” تجراي-تجرينيي”. وما كان يعرف ب”قوم الأجاعز” أو “أرض الأجاعز”، لم تكن جزءًا من الأرض التي تعرف اليوم ب” مَرَب مِلَّاش”* – ما قبل نهر مرب “القاش”، بل تمتد شرقًا حتى ” أَلِوَها مِلَّاش**- ما قبل الأرض الخالية من المياه”، وغربًا حتى ” تَكَّزِي مِلَّاش***- ما قبل نهر ستيت”. ولكن لاحقًا ونتيجة لبعض التطورات، كما سنرى فيما بعد، ظهرت خلافات كبيرة داخل حزب “إرتريا للإرتريين”، وأخذ شعار توحيد الأرض المعروفة ب”ألوها ملاش” يضعف تدريجيًّا. أما بالنسبة للحركة التي كانت تحمل شعار “تجراي–تجرينيي” نحتاج أن نتعمق فيها بعض الشيء لنفهم النفسية التي كانت تقف خلفها، حتى لا يتكرر التاريخ مرة أخرى. وحسب التوضيح الذي قدمه البروفيسور ألم–سجّد أبّاي لشعار “تجراي–تجرينيي” فقد كان تعبيرًا عن نهضة أو عودة الروح الوطنية مجددًا. فالنهضة الوطنية كانت عبارة عن حركة ظهرت في القرن التاسع عشر فيما تعرف اليوم بإيطاليا. كانت الشعوب التي تتحدث الإيطالية تعيش في ولايات صغيرة ومجزأة حتى عام 1870. وبالتالي، فالنهضة الإيطالية كانت عبارة عن حركة خاضت نضالاً ثقافيًّا وسياسيًّا لتوحيد الشعوب التي كانت تتحدث الإيطالية، وكانت تعيش في ولايات صغيرة ومجزأة في وطن واحد اسمه إيطاليا. وبالنسبة لإرتريا- ونعني هنا تحديدًا بالنسبة لحركة “تجراي–تجرينيي”، ماذا كانت تعني هذه التجربة؟ كان ذلك يعني أن الشعب الذي يتحدث التجرينية، ومنذ عهد حضارة أكسوم، كانت له وما يزال هوية ثقافية ودينية واحدة، وشعور موحد بالهوية، وكانت هناك علاقات مصاهرة في داخله، وبالتالي يمكنه أن يشكل وطنًا موحدًا. وكما يقول ألم-سجّد أبّاي، كان الحجر الأساس لمفهوم “تجراي–تجرينيي” التاريخ القديم أو العريق، *مرب ملاش – معني بها الأرض الواقعة ضمن حدود أرض الداخل الإرتري**ألوها ملاش – معني بها الأرض الواقعة خارج حدود الأرض الإرترية، وتتجاوز الأنهر الموسمية (القاش وسيتيت) التي تعتبر حدودًا طبيعية بين إرتريا وإثيوبيا، لتغطي كامل أرض إقليم تجراي في شمال إثيوبيا، وأجزاء أخرى في الداخل الإثيوبي ***تكزي ملاش – معني بها أيضًا الأرض الواقعة ضمن حدود أرض الداخل الإرتري (المترجم)وبالتالي كان المفهوم عبارة عن فلسفة تهدف إلى تأطير كل المتحدثين باللغة التجرينية تحت سقف كيان سياسي واحد، بمعنى أن يكونوا تحت مظلة وطن واحد. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ووصول وفد الدول الأربعة الكبرى، الذي كان يمثل الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وفرنسا، وبريطانيا إلى بلادنا للاطلاع على رغبات شعبنا، قدم إليهم حزب “إرتريا للإرتريين” مذكرة جاء فيها أن إقليم تجراي “سواء أكان بموقعه الجغرافي، وثقافته، وتاريخه، وعلاقاته التجارية، وكما كان في السابق أيضًا فهو جزء من إرتريا”، الأمر الذي كان يتناغم، وكما ذكرنا سابقًا، مع الخطة التي وضعها البريطانيون لإلحاق إقليم تجراي بإرتريا. وبلغة أكثر وضوحًا، كان ذلك الموقف يعكس الاعتقاد السائد في فكرة ” تجراي–تجرينيي” على النحو التالي:”كل الحروب التي جرت في شمال إثيوبيا، سواء أكانت ضد المصريين، أم الإيطاليين، وكذلك في المعارك التي جرت ضد الدراويش في المتمة، كانت تدار من قبل شعب وقادة المجتمع (الأمراء) في إرتريا وتجراي وليس بأبناء شوا. وهذا يشير إلى أنه لا يوجد قاسم مشترك بين الشعب الذي يتحدث التجرينية بشعب شوا من الناحية الجغرافية، أو الإثنية، أو التاريخية أو المنشأ. ولو تحدثنا عن الماضي، فالحضارة الإثيوبية القديمة كان منشؤها في إرتريا وتجراي (أكسوم)، وبالتالي لم تنتقل من شوا إلى الشمال. وكان أبناء شوا في تلك الحقبة قبائل رعوية متنقلة وغير متحضرة. بل يجب أن نذكر بكل تأكيد أن شوا كانت في تلك الحقبة خاضعة للشعب الناطق بالتجرينية”. ويتضح لنا مما قيل إن منطلقات حزب إرتريا للإرتيريين، وكما قال البروفيسور تخستي نجاش “مبني على التركيز في التاريخ العريق والمجيد الذي كان ينعم به شعب تجراي، وعلى المكانة العالية والريادية التي كان هذا الشعب يتمتع بها قديمًا في إثيوبيا”. كما يتضح أيضًا أن هذا الموقف كان مشوبًا بنظرة استعلائية أو تفاخرية. بالإضافة إلى أنه كان يمثل نموذجًا واضحًا لسياسة التجرينيا الرافضة لحكومة شوا. هناك نقطة ترتبط بهذا الموضوع لا بد من إثارتها، وهي أن بعض الآباء الذين رفعوا شعار “إرتريا للإرتيريين” انطلقوا من نظرة توسعية تسعى إلى ضم بعض الأراضي التي تخضع لسيطرة دول أخرى إليهم بدعوى أن ملكيتها تؤول إليهم، وهذه الأراضي هي الواقعة في شرق السودان والتي تضم مدينة كسلا الحالية. كما أن هناك قضية هامة لم تحظ باهتمامنا الكافي منذ القدم والتي تتعلق بشعار “إرتريا للإرتيريين أو تجراي – تجرينيي”، وهذه القضية هي أن الوطن الذي أطلق عليه”تجراي –تجرينيي” من كان سيقوده؟ وللرد على هذا السؤال، وحتى لو لم نتمكن خلال السنوات الماضية من التنبه له، إلاّ أنه كان جليًّا وواضحًا على الأقل بالنسبة لمعظم الناشطين ضمن شعار “إرتريا للإرتيريين” بأن قيادة وطن “تجراي-تجرينيي” كانت ستؤول إلى القيادات الإقطاعية في إقليم تجراي. وكانت هناك نخبة من أبناء الهضبة الإرترية الذين كانوا يؤمنون بأحقية وقانونية القيادات الإقطاعية التجراوية، وبالتالي، كانت الفكرة بأن “الراس سيوم منجشا” حفيد الملك يوحنّا “يوهنس” بإمكانه أن يكون قائدًا لدولة “تجراي-تجرينيي”. والمشاعر الوطنية المبنية على فكرة “تجراي-تجرينيي”، لم تكن لها حركة بارزة في منطقة ما وراء نهر مرب، أي في تجراي. وبمعنى آخر فإن فكرة “تجراي-تجرينيي” لم ترق لشعب تجراي، لكن هناك من يقول إن بعض القيادات الإقطاعية في تجراي كانت قد تبنت لبعض الوقت على الأقل فكرة شبيهة بفكرة “تجراي-تجرينيي”. وعلى سبيل المثال يبدو أن الراس سيوم منجشا، والدجازماتش هيلي-سلاسي جوجسا كانا لبعض الوقت يتبنيان فصل إقليم تجراي عن إثيوبيا. ويقال أيضًا إن كليهما قاما في بعض المراحل بتأييد فكرة أن يدار إقليم تجراي وإرتريا معًا لبعض الوقت من خلال بريطانيا أو أية قوة أجنبية أخرى. وبالتالي، فإن حركة “تجراي-تجرينيي” كانت متواجدة أكثر في إرتريا، وهي كانت أيضًا محدودة في جزء معين من الهضبة الإرترية. وعمومًا فإن محاولات البريطانيين الرامية إلى هيمنة المشاعر التجراوية في أوساط مسحيي الهضبة لم يحالفها النجاح. وكما أوضح البروفيسور إيرليك هاغاي، فالأقلية التي حصلت على التعليم الحديث، أو التي سكنت المدن من الإرتيريين “كانوا متأثرين بالمفاهيم الحديثة”. وتجراي بالنسبة لهم لم تكن تمثل نموذجًا للحداثة، بل تمثل التخلف والمحافظة. وبالتالي، فإن غالبية طلائع الشباب الإرتري المسيّس ربطوا “المفاهيم السياسية الحديثة” التي تبنوها بالمشاعر الإثيوبية، وعليه كانوا “معجبين” بهيلي-سلاسي. وكما أوضحنا سابقًا، البريطانيون كانوا راغبين في تحقيق نوع من أنواع الوحدة بين تجراي وإرتريا تكون خاضعة لسيطرتهم. لكن وبعد فترة، ونسبة للتغيرات السياسية تخلَّوا عن فكرتهم وبادروا بتأييد فكرة الحل الفيدرالي التي قام الأمريكيون بطرحها، وكانت تضمن لإرتريا وحدة مع إثيوبيا تتمتع بضمانات. كما قام بعض القيادات والأعضاء البارزين في حزب إرتريا للإرتريين بتغيير مواقفهم وقبلوا بالحل الفيدرالي كحل وسط. جاء هذا التغيير نتيجة الانشقاق الذي كان قد حدث في الحزب قبلها نسبة للمؤامرة التي حاكها ممثل الحكومة البريطانية في إرتريا العقيد فرانك ستافرد والتي أدت إلى حدوث انشقاق داخل الحزب، ونشأت عنه جمعية أُطلِق عليها “الوحدة التحررية مع إثيوبيا”. وجدت فكرة الفيدرالية قبولاً واسعًا لدى سائر الأحزاب السياسية. والسبب الذي أدى إلى قبولهم بها ليس لأنها كانت خيارهم الحقيقي كما أوضحوا ذلك لاحقًا، بل لأن الفيدرالية كانت السبيل الوحيد الذي يضمن استمرارية إرتريا ككيان موحد. فمثلاً الراس تسما أسبروم الذي كان يرأس الكتلة الاستقلالية، والذي كان سابقًا من أكثر المدافعين عن فكرة “تجراي-تجرينيي”، قبل بالحل الفيدرالي الذي قدمته الأمم المتحدة واعتبره انتصارًا. ولتبرير صحة موقفه نسبة للظروف التي كانت سائدة ذكر ما يلي “نحن ناضلنا من أجل الاستقلال الكامل، وبما أننا لم نتمكن من تحقيقه، فهذا النصر الذي تحقق اليوم يجب أن يكون في مصلحة الجميع. وبفضل هذا الانتصار لم تنته وحدة بلادنا، كما أن شعبنا لم يتم تقسيمه”.وبالنسبة لجيل الآباء الذين كانوا ينادون بالاستقلال وقبلوا بالحل الفيدرالي على مضض، يمكن الإشارة إلى أنهم كانوا يحسون بالحرج. فمثلاً السيد ولدآب ولدماريام يقال إنه وصف هذا الوضع الحرج قائلاً “الغريق يتعلق بالقشة” وبالتالي بالنسبة لجيل الآباء كانت وحدة إرتريا هدفًا “استراتيجيًّا” مرغوبًا لذاته. وكان الحل الفيدرالي حسب رأيهم تكتيكًا يحقق ذلك التطلع.ولم تقبل حكومة الامبراطور هيلي-سلاسي أيضًا بالحل الفيدرالي باعتبار أنها راغبة فيه وتؤمن به، بل لأنه لم يكن لديها خيار آخر. ففي ذلك الوقت كان عدد الإرتريين الذين يناهضون الوحدة الكاملة مع إثيوبيا أكثر بكثير من الذين كانوا ينادون بالوحدة الاندماجية معها. كما أن المطالب الإثيوبية لم تحظ بتأييد كاف في أروقة الأمم المتحدة. لذا قبل الامبراطور هيلي–سلاسي بالحل الفيدرالي، وكما أشار الدكتور أماري تخلي في الدراسة الموسعة التي قام بها في عام 1964، نصحه مستشاروه بالقبول بالحل الفيدرالي لأنه يمكن هدمه بشكل تدريجي، وضم إرتريا إليه نهائيًّا. لم تكن هناك فقرة قانونية تسن على محدودية الفترة الفيدرالية، لكنه تم إشاعة أن فترة الفيدرالية محددة بعشر سنوات، وكانت تلك عبارة عن تهيئة ذهنية تساعد على هدم النظام الفيدرالي. وبالتالي وبعد أن قامت حكومة هيلي-سلاسي بتهيئة الأرضية المناسبة لهذا الفهم، قامت بالتعاون مع بعض الإرتريين بتعويض النظام الفيدرالي بصورة تدريجية في عام 1962، أي بعد مرور عشر سنوات على النظام الفيدرالي. بالنسبة لحكومة الامبراطور هيلي–سلاسي كان النظام الفيدرالي وسيلة فقط، وكانت الاستراتيجية الهيمنة الكاملة بمرور الوقت على إرتريا. وهناك أهمية خاصة لنذكِّر ونؤكد على أن الفيدرالية كانت عبارة عن مرحلة انتقالية، والسبب في ذلك هو أننا قلقون من أن التاريخ يعيد نفسه بصورة أو بأخرى الآن أيضًا!!-3-في عام 1961، وقبل الإعلان عن انتهاء النظام الفيدرالي رسميًّا، فجرت جبهة التحرير الإرترية بقيادة حامد إدريس عواتي الكفاح المسلح. وبحكم التركيبة الاجتماعية والدينية لبلادنا، والتناقضات التي يمكن إرجاعها إلى مؤثرات تاريخنا الحديث، واجهت الثورة الإرترية في بداياتها الكثير من المشكلات والعقبات. ومنذ أن بدأ إسياس أفورقي في عام 1970 تحركاته لإنشاء تنظيم خاص به، استغل بصورة سيئة التناقضات الاجتماعية القائمة التي ظهرت في المجتمع الإرتري وفي تنظيم جبهة التحرير الإرترية. فإسياس وفي البيان الذي أصدره بعنوان “نحن وأهدافنا”، والذي حاول نثر بعض المفردات الوطنية في ثناياه لخداع الجماهير، توجه بصوت عال إلى المسيحيين من الشعب الإرتري للقبول به واتباعه، وبالتالي لم تكن وثيقة “نحن وأهدافنا” تهتم بأوضاع الشعب الإرتري وحقوقه، بل كانت صرخة مشؤومة أطلقها إسياس لتحقيق أحلامه الجشعة. وكما أوضح المناضل ردئي محاري في كتابه الذي اكتسب شهرة واسعة فإن إسياس أطلق على بيانه “نحن وأهدافنا” لتضليل الجماهير، إلاّ أن الحقيقة كانت تقتضي أن يطلق عليه “أنا وأهدافي”. وعندما التحق إسياس أفورقي بالثورة الإرترية، لم يكن هدفه الحقيقي وتطلعاته حرية إرتريا وسيادتها، بل كان هدفه الذي ظل يتحرك بحذر شديد لتحقيقه في الخفاء فكرة “تجراي-تجرينيي”، كما أخبرنا بذلك مرارًا ردئي محاري وتسفاي تمنوو، وغيرهم من الذين ناضلوا في الجبهة الشعبية. وحتى في فترة الكفاح المسلح كان إسياس وأعوانه، سواء قصدوا ذلك أم لا، كانت هناك فترات أفصحوا فيها عن توجهاتهم الداعية إلى “تجراي- تجرينيي”. فمثلاً الصحفي الفرنسي الذكي والمعروف رينيه ليفورت عندما ذهب إلى الميدان لزيارة مواقع الجبهة الشعبية أبدى الملاحظة التالية في كتابه الذي طبع في عام 1983، وقال إنه سمعها من أحد قيادات الجبهة الشعبية عندما كان يعطي توضيحًا مسهبًا عن التنظيم. أوضح ذلك العنصر القيادي في نهاية حديثه “أهداف الثورة الإرترية” على النحو التالي: “نحن ورثة مملكة أكسوم، ولن تكون لنا أية علاقة مع حكومة شوا”. هذا الصحفي الحصيف رينيه ليفورت عندما لاحظ أن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يقال سدى، بل له مدلولاته الكبيرة، سجل تلك الملاحظة في كتابه. تمكن إسياس من إحكام قبضته على تنظيم الجبهة الشعبية بعد سقوط الامبراطور هيلي–سلاسي واقتلاع نظامه الملكي من جذوره في منتصف السبعينيات إثر ثورة حدثت في البلاد. وفي خضم هذه العملية أحكمت الطغمة العسكرية “الدرغ” سيطرتها على مقاليد الحكم، وبعد فترة أعلن “الدرغ” تبنيه للنهج الاشتراكي وقام بتوطيد علاقاته مع الاتحاد السوفييتي. كانت تتميز تلك الحقبة بالحرب الباردة، وكان التنافس الفكري والاستراتيجي في أوجه بين المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد أزعج ارتباط الطغمة العسكرية في إثيوبيا بالمعسكر الشرقي الولايات المتحدة الأمريكية وسائر الدول الغربية، وبالتالي بدأوا بدراسة السبل الكفيلة لإسقاط نظام”الدرغ”، ووضعوا مخططًا يلامس الثورة الإرترية بصورة مباشرة. وكان المخطط الذي توصلوا إليه يتلخص في استخدام الثورة الإرترية لإسقاط “الدرغ” وفقًا للخطة التالية. من بين الحركات التي كانت تناهض “الدرغ” بالسلاح كانت الثورة الإرترية ممثلة في جبهة التحرير الإرترية والجبهة الشعبية لتحرير إرتريا. وكانت المشكلة -حسب رأي مهندسي الاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية- أن هدف الفصائل الإرترية هو الاستقلال الكامل، أي الانفصال عن إثيوبيا. أما استقلال إرتريا لا ينسجم مع أهداف واستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية، لأن انفصال إرتريا سوف يكون مشكلة بالنسبة لأمن إسرائيل. وبالتالي قرر الأمريكيون استخدام الثورة الإرترية، لكنهم قرروا في الوقت نفسه ضمان أن يتم استقلال إرتريا بصورة لا يشكل بها خطرًا على أمن إسرائيل. ولحل مشكلة إرتريا على هذا النحو قدم الخبراء الأمريكيون آراء مختلفة. والتي تهمنا من بين تلك الآراء هما الفكرتان التاليتان: الفكرة الأولى هي أن استقلال إرتريا سوف لن يشكل تهديدًا لإسرائيل، والسبب في ذلك أنه وبالإشارة إلى نشوء ثورة تحرير شعب تجراي (الوياني)، وبحكم وجود حركة انفصالية في تجراي أيضًا، وبعد انفصال تجراي سوف تنضم بشكل من الأشكال إلى إرتريا، وسوف تكون غالبية سكان البلد الجديد من المسيحيين. وبالتالي الوطن الذي يضم تجراي وإرتريا، والذي سيشكل المسيحيون غالبية سكانه لن يشكل تهديدًا لإسرائيل. هذا الرأي قدمه الخبير القانوني في مجلس الشيوخ الأمريكي توم فيرر في شهر أغسطس عام 1975. أما الرأي الآخر فقد قدمه الخبير جون سبينسر، وكان محتواه على النحو التالي: التنظيمات الإرترية هي الوحيدة القادرة على إسقاط نظام الطغمة العسكرية الحاكم في إثيوبيا (الدرغ)، وطرد الاتحاد السوفييتي من القرن الأفريقي. لكن هذه التنظيمات تدعو إلى الانفصال عن إثيوبيا، أي الاستقلال. واستقلال إرتريا ليس رغبة أمريكية، وبالتالي ما العمل؟ قدم سبسينسر بعدها هذه المحاولة. لندع استمرار شعار استقلال إرتريا حتى سقوط “الدرغ” وخروج الاتحاد السوفييتي من القرن الأفريقي. وبعد سقوط (الدرغ) وتسلم السلطة في إثيوبيا من قبل نظام يتوافق مع أمريكا يمكن لإرتريا أن تستقل. لكن الهدف من استقلال إرتريا هو ألاّ يكون حالة دائمة أو ثابتة، بل يكون لفترة قصيرة فقط، وبتعبير جون سبينسر يكون الاستقلال “تجربة سريعة الزوال – Fleeting Experience” بمعنى أن يصبح فقط تجربة غير مستقرة وتزول بسرعة. وهذا معناه أن تصبح إرتريا وطنًا مستقلًّا لوقت قصير. وبعدها ماذا ستكون؟ حسب خطة جون سبينسر فإن إرتريا وبهذا الشكل ستزول تدريجيًّا بعد تقسيمها. فبالنسبة للمرتفعات ودنكاليا، وبداية من مصوع وحتى باب المندب جنوبًا، يتم ضم هذا الشريط الساحلي على البحر الأحمر إلى إثيوبيا، شريطة أن يكون له حكمًا ذاتيًّا (وعندما يقال مع إثيوبيا فالمعنى هو أن ينضم هذا الجزء إلى تجراي بحكم أن تجراي وإرتريا هما على علاقة جوار مباشر فيما بينهما). أما الجزء الآخر من إرتريا، وهو إقليم الساحل والمنخفضات الغربية معه والذي يشكل المسلمون غالبية سكانه، يتم ضمه إلى السودان. وهكذا تصبح إرتريا ممزقة. هكذا كانت خطة سبينسر. هذه الأشياء التي ذكرتها مرارًا والمتعلقة بالأفكار التي قدمها كل من فيرر وسبينسر، يبدو أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أخذت هذه الآراء في حسبانها وجعلتها مرتكزات لسياساتها. وانطلاقًا من الاستراتيجية البعيدة المدى والرامية إلى إزالة إرتريا من الوجود، تم الهجوم على جبهة التحرير الإرترية من قبل الجبهة الشعبية لتحرير إرتريا تساندها “الوياني”. وطبقًا للصورة البادية للعيان اليوم، أولئك الذين كانوا داخل جبهة التحرير الإرترية من العناصر الذين قامت الجبهة الشعبية بتجنيدهم لصالحها، بالإضافة إلى العناصر الذين تم تجنيدهم من قبل قوى خارجية، فقد تآكلت جبهة التحرير الإرترية من داخلها وتبعثرت، وخرج جزء كبير من مقاتليها من الميدان. وهكذا أصبحت السياسات التي ينتهجها إسياس هي الطاغية في الثورة الإرترية. ومنذ عام 1980-1981، حتى لو كان يطلق على الحركة المسلحة في إرتريا “الثورة الإرترية”، فإنها كانت تخدم أهدافًا أخرى، بمعنى أهداف إسياس والمتعاونين معه في الغرب وغيرهم. وبعبارة أخرى فالثورة الإرترية ومنذ ذلك التاريخ لم تعد حقيقة بل أصبحت وهمًا. واقتباسًا من كتاب ردئي محاري سوف أنقل لكم مقتطفًا يبين هذه الحقيقة “بالضبط وكما يتم خداع البقرة التي مات وليدها بجلده لتدر اللبن لعدة أشهر، تم تضليل الشباب لعدة أعوام للنضال باسم الثورة الإرترية، رغم أن الثورة كان قد تم حرفها عن مسارها. وكان الثمن إراقة دمائهم”. كانت سياسة إسياس، وكما أوضحنا سابقًا، ترمي إلى تحقيق هدف تجراي–تجرينيي. لذا، وبمنطق الجدل فإن هدف الكفاح المسلح الطويل الأمد أصبح إقامة دولة تجراي- تجرينيي، ولم يعد هدفه الحقيقي بناء دولة إرترية ذات سيادة وموحدة. واستقلال إرتريا كان مجرد شعار أو وسيلة، وهذا ما يبدو عليه الوضع حتى هذه اللحظة. وهناك شخص آخر أبدى حزنه الشديد على الأوضاع الحالية، حيث استشهد والده في الميدان، كما أنه أمضى شبابه في الميدان- وأعتقد أنه يدعى “بايلوت – Pilot”، سمعته وهو يتحدث في البالتوك على النحو التالي: ” نضالي كان سدى، كما استشهد والدي سدى”. وهذا القول فيه صراحة ودقة. بمعنى، لو نظرنا إلى الموضوع بمنظار المرحلة الراهنة – وبالوضع في الحسبان أوضاع ما تسمى بإرتريا المستقلة اليوم، فإنه يقول لنا “إن نضالي لم يكن لمصلحة إرتريا، وأن والدي لم يضح بحياته لمصلحة إرتريا”. وكما قال هذا المناضل، فإن هذا الوضع الذي يطلق عليه إسياس وجماعته الاستقلال، لم يستفد منه الشعب الإرتري. كان الدافع بالنسبة لكل المناضلين، وليس فقط أولئك الذين استشهدوا أو أصيبوا بإعاقات، التضحية من أجل الشعب والوطن، لذا أحب أن أؤكد على أن هذا الأمر هو محط تقديري واحترامي. حتى لو قلنا إن الشعب الإرتري لم يجن ثمرة نضالاته، لا يعني ذلك أن هناك أطرافًا لم تستفد من هذا النضال. ففي معظم الأحيان تقريبًا هناك قضية وهي أن كل النضالات والأعمال، أو الجهود النضالية لا يمكن أن تهدر. هناك من يستفيد من هذه الأوضاع. والسؤال هو من المستفيد؟ هناك أطراف استفادت من نضال الشعب الإرتري ومن تضحيات أبنائه. فالقوى الغربية التي كانت تسعى إلى إسقاط “الدرغ” وإعاقة الاشتراكية حققت أهدافها. والوياني تمكنوا من الإمساك بزمام السلطة في إثيوبيا. وإسياس أفورقي وجماعته يحكمون في إرتريا، وتمكنوا من تمرير مشروعهم. وهناك أطراف أخرى بمن فيهم أفراد إرتريون يمكن أن يقال أيضًا إنهم استفادوا. -4-تمر إرتريا اليوم بمرحلة ضياع بحيث يمكن القول إنها تسير في طريق الهلاك. أما تفاصيل معاناة وطننا كنا قد تطرقنا إليها من قبل. وأحد الأمور التي تدعونا إلى القلق والتفكير الكثير هو أن مثل هذه الأوضاع كان يفترض ألاّ تحدث في إرتريا. فالأوضاع الراهنة في إرتريا تذكرني بمقولة قالها المراقب الروسي (السوفييتي) فلاديمير بازنر في نهاية الثمانينيات تقريبًا، عندما سأله الصحفي الأمريكي فيل دونهيو: “ما الأمر الذي يحزنك كثيرًا في وطنك”، قال بازنر في إجابته: “لدي تقدير عما كان يمكن أن تصل إليه بلادي، وأعرف أين هي الآن بصورة ملموسة، ويحزنني الفرق الشاسع بين ما كان يمكن أن تصله، وبين ما هي عليه الآن”. هذا الحديث يصف الوضع في إرتريا كما هو. نحن مدركون لما كان يمكن لإرتريا أن تحققه، خاصة نحن الذين قضينا طفولتنا في إرتريا، ونوجد حاليًّا في خريف العمر. كان الإرتريون يتميزون بحبهم للعمل، وهذه هي الحقيقة. وبسبب أوضاعنا وقلة موارد بلادنا الطبيعية، كان علينا العمل وبذل الجهد لتحسين أوضاعنا المعيشية. ففي دول الجوار مثلًا، سواء أكان في إثيوبيا أو السودان، كنا نحظى بالتقدير والاحترام بسبب حبنا للعمل، والإنتاجية، والأهلية، والمهارة، والأمانة، وهذا ما جعل الإرتريين مرغوبين في العمل.وكبلد مستقل، بعد أن يتم توظيف هذه القدرات أو الإمكانيات الكامنة فينا، كان يمكن أن نزدهر، ونتطور، ونعكس صورة مشرقة كمجتمع. والواقع الماثل في إرتريا اليوم هو عكس ما كان يجب أن يكون عليه الحال. أصبحت إرتريا وبكافة المعايير منبوذة. فشعبنا اليوم فاقد لأبسط الحقوق السياسية، ولا تحترم حقوقه الإنسانية على الإطلاق، وقد تكالبت عليه عوامل الفقر، كما حرم من الجوانب الإنسانية في حياته الاجتماعية، وتهيمن على أوضاعه عوامل الخوف والرعب دون أن تكون هناك أية بوادر تنقذه أو تحميه منها. أما أوضاع شبابنا على وجه الخصوص فهي محزنة وتراجيدية للغاية. ففي المرحلة التي يفترض أن يكونوا فيها سعداء، يتعرضون للاستعباد تارة باسم “ساوا”، وتارة أخرى باسم الخدمة الوطنية. وفي محاولاتهم للهروب من هذا الجحيم، أصبح البعض منهم طعمًا للأسماك التي لا ترحم، والبعض الآخر منهم وبعد وقوعهم ضحايا في أيدي عصابات الإجرام يتم سلخهم كالمواشي لنهب كلاهم وأعضائهم الداخلية الأخرى، ويتم التخلص من جثثهم برميها في براري الصحراء الأفريقية وفي سيناء وغيرها من الأماكن. هذه المعاناة مؤسفة للغاية وتسبب الرعب لمجرد سماعها. ففي الوقت الذي يتعرض فيه أبناء إرتريا لمثل هذه المعاناة، قد نجد من يتساءل ببراءة ماذا تفعل الحكومة الإرترية؟ هذا النظام الديكتاتوري الذي يجلس على رأسه إسياس إفورقي ليس في الحقيقة حكومة إرترية، بل هم عبارة عن مجموعة متآمرة تضمر الكراهية والحقد للإرتريين. وهؤلاء، وبصرف النظر عن أن أصولهم من تجراي، كان يمكنهم أن يصبحوا إرتريين، إلاّ أنهم ولسبب مجهول اختاروا أن يصبحوا حملة شعار تجراي- تجرينيي بصورة تلحق الضرر بشعبنا. ربطًا بهذا الموضوع، هناك قضية مؤسفة لا بد من إثارتها. هؤلاء الذين قدموا خدماتهم لإسياس أفورقي لسنوات طويلة في الميدان، وبعدها أيضًا في الحكومة الإرترية، أمثال هيلي ولدتنسائي (درع)، ومحمود شريفو، وإسطيفانوس سيوم، وبيطروس سلمون، وجرمانو ناتي، وأستير فسهاظيون، وبرهاني جرزجيهير وغيرهم، تم زجهم في جحيم سجن “عيرا-عيرو” حيث مات البعض منهم، بينما ينتظر البعض الآخر موته في عذاب. هؤلاء المناضلون لم يرتكبوا جرمًا، وقد تعرضوا لهذه المعاناة لمجرد أنهم دعوا إلى البدء بالعملية الديمقراطية والدعوة إلى الإصلاح. وهناك نقطة هامة لها علاقة بهؤلاء السجناء وغيرهم، وهي أن هؤلاء الذين يسجنون ويتم تصفيتهم بمختلف الأساليب يحدث لهم ذلك لكونهم إرتريين بارزين. وكما علمت من الكثيرين، ليس هناك من بين الأسرى أو من الذين تم تصفيتهم من قبل حكومة إسياس أحد من ذوي الأصول التجراوية، وهذه تعتبر ملاحظة في غاية الأهمية.وبعد أن حلت هذه الأوضاع التي يطلق عليها الاستقلال، لم تخط إرتريا للأمام فقط، بل تقهقرت عما كانت عليه من أوضاع وسبقتها كل دول الجوار. فحتى إقليم تجراي الذي كان يعتبر متخلفًا بمقاييس العصر، تقدم على إرتريا اليوم بصورة واضحة. فالتطورات التي شهدها إقليم تجراي تبعث حقًّا على السرور، وأبناء الإقليم حققوا نجاحًا باهرًا، لكن السؤال هو لماذا تخلفت إرتريا؟ خاصة وأنها تحكم من قبل أبناء تجراي!! ففي الوقت الذي يحقق فيه إقليم تجراي نجاحات، نرى إرتريا وهي تعاني وتتقهقر، الأمر الذي يدعو إلى الدهشة. كيف سقطت بلادنا إذًا في زمن الاستقلال في مثل هذا المأزق؟ سؤال يقلق عددًا كبيرًا من الإرتريين. لكن الإجابة على هذا السؤال واضحة. سبب وجود مثل هذه الأوضاع هو أن إرتريا لم تستقل عمليًّا وتصبح دولة ذات سيادة، بل كان الاستقلال صوريًّا. فعندما نقول إن بلدًا ما أصبح مستقلًّا يعني ذلك أن استقلاله وسيادته يجب أن يكونا مستمرين. أما إرتريا، وكما ذكرت سابقًا، تبقى وبعد سقوط “الدرغ” لبعض الوقت مستقلة ومنفصلة، وبعدها، وحسب البرنامج الموضوع، تدب فيها الانقسامات وبالتالي فإن الاستقلال والسيادة اللذين جاءا للبقاء لبعض الوقت، ثم لتتبعثر بعدها إرتريا إلى أشلاء لا يعد استقلالاً. عليه وفقًا لهذا البرنامج إرتريا الحالية ليست دولة مستقلة ذات سيادة، بل هي في مرحلة انتقالية. ومثل الفترة “الفيدرالية” التي كانت مرحلة انتقالية لضم إرتريا قسرًا، فإن “الاستقلال” الراهن أيضًا يعتبر مرحلة انتقالية تمهد لتقسيم بلادنا وإنشاء دولة تجراي- تجرينيي. ما نراه من أوضاع راهنة يجعل إرتريا وطنًا فاقدًا لمعناه، ويضعف الهوية الوطنية الإرترية، ويفرِّغ البلاد من شبابها، ويجعلها غير قادرة على مواجهة تحديات المستقبل، ويجبر الإرتريين وخاصة الشباب أن ينظروا إلى إقليم تجراي الذي يشهد حاليًّا نموًّا بعين الدهشة والإعجاب. وباختصار، يمهد هذا البرنامج الإرتريين، وخاصة الناطقين منهم باللغة التجرينية، من الناحيتين النفسية والعقلية، لقبول مشروع تجراي – تجرينيي. والمنطق الذي يقوم عليه مشروع تجراي- تجرينيي هو جعل إرتريا وطنًا لا يفخر به أبناؤه بل يكرهونه. وعندما تتردى الأوضاع في إرتريا إلى هذه الدرجة من السوء، يصل شعبنا إلى درجة القول “انظروا إلى تجراي، ها هي قد حققت درجة عالية من النمو، وبالتالي من الأفضل لنا الانضمام إليها”، وذلك وفق محاولات مثيري مشروع تجراي – تجرينيي وتوقعاتهم. وفي الجنوب- في الجانب الإثيوبي- هناك أيضًا تحضيرات جرت وما زالت تجري أشبه بمشروع تجراي – تجرينيي. وأهم ما في هذه التحضيرات هو ذلك المفهوم الإشكالي الداعي إلى حق تقرير المصير حتى الانفصال. فحكومة الجبهة الثورية للشعوب الإثيوبية التي تهيمن عليها الثورة الشعبية لتحرير تجراي قامت بتثبيت حق تقرير المصير حتى الانفصال في الدستور الإثيوبي. وبموجب المادة 39 من الدستور الإثيوبي تجراي لها الحق في الانفصال. هذا الحق – حسب المراقبين- يشكل بالنسبة لتجراي، وخاصة لوياني تجراي، أو على الأقل لجناح منها، الخيار النهائي الذي تحتفظ به في الخفاء. والثورة الشعبية لتحرير تجراي “الوياني” ما زالت تسعى لإبقاء إشكالية حق القوميات حتى الانفصال لفترة طويلة ممكنة. والتنظيمات الإرترية التي تؤمن بوجود علاقة متميزة بينها وبين الوياني، وهي تنظيمات كثيرة العدد لكنها قليلة الحجم، وتأتمر بأوامر الوياني، جعلت من مفهوم حق القوميات حتى الانفصال علامة فارقة في مواقفها. وهذه اللغة الداعية إلى حق القوميات حتى الانفصال تخدم بصورة مباشرة مشروع تجراي- تجرينيي. فعندما تعلن بعض المجموعات القومية أو جزء منها عن رغبتها في الانفصال يكون في مقدور الناطقين بالتجرينية في الهضبة الإرترية أيضًا الالتحاق بتجراي وتحقيق حلم تجراي- تجرينيي. أنا أؤمن بالمساواة بين المكونات القومية الإرترية، كما أؤمن بحقها في تقرير مصيرها، ولكن عندما أقول ذلك أعني وجود إمكانية تحقيق هذه المساواة في ظل إرتريا واحدة وموحدة. والعمل من أجل زرع الشقاق في إرتريا باسم حق تقرير المصير ليس إلا مجرد خيانة وطنية. وكما تمت الإشارة إليه سابقًا، فالتحدي القائم اليوم يتعلق بوجود إرتريا أو عدم وجودها. ومن أجل استمرار إرتريا كوطن لا بد لكل إرتري من أن يساهم بما في استطاعته في النضال من أجل تحريرها، والشكل المناسب لتنظيم هذا النضال هو العمل في إطار جبهة من أجل الوطن الأم.-5-فمفهوم الوطن الأم يعني في الفهم الشائع أو حرفيًّا البلد أو المحيط الذي كان يعيش فيه الآباء وقبلهم الأجداد، ولكن في العلوم السياسية أصبح لمحتوى الوطن الأم معنى أعمق. ولا يشير المعنى إلى مكان أو وطن معين، بل يشير ذلك إلى شعب يتميز بمضمون “سياسي وثقافي واجتماعي” يميزه عن غيره. أما بالنسبة للمفهوم في شكله المتطور أو الأكثر تطو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى