مقالات

الوطن بين أحلام المواطن واستحواذ النخب : محمود عمر / بورتسودان

24-Jan-2014

عدوليس

الوطن تلك البقعة من الارض التي يستنشق فيها المولود الهواء لأول مرة يخرج من رحم الغيب وينمو فوقها ويتذوق ويقبل ترابها منذ نعومة أظافره ويترعرع وهو يعانق اشجاره وازهاره

ويمارس الانسان عادات وتقاليد وعبادات وسط اسرته الصغيره من بيت وجيران واصدقاء صبا وملاعب وهذه التراكمات التي تشكل لوحة وجدانية لايمكن ان تفارق الشخص امد حياته. هذا التعريف الوجداني الذي حرم منه كثير من الجيل الارتري الحالي الذي ولد في فيافي المعاناة ومعسكرات اللجوء او معسكرات الثورة بطول فترة النضال الارتري في الحرية والاستقلال الا انه ظل حلمه اكثر تشويقاً له بحكايات الاجداد والاباء .
اما الدولة هي هذه الحدود السياسية التي رسمت عندما انطلق المارد الاوربي صوب العالم المتخلف لجلب متطلبات الدولاب الصناعي الا ان الحصول علي معينات الصناعة لم تكن امراً سهل المنال بل اعتمد علي الصراع والاحتراب بين مراكز القوة في اوربا علي ارض الشعوب المتخلفة واستنزفت شعوب المستعمرات مادياً وبشرياً وتشكلت الامم المتحدة بتقاسم خيرات ارض هذه الشعوب بشروط المنتصر.
جاء تطلع شعوب العالم الثالث في الحرية وتقرير مصيرها واستجابت الدول الاوربية سلماً او حرباً لخيار الشعوب الا ان الدول الكبري ابقت علي مصالحها مع مستعمراتها باتفاقات ثنائية او اقامة مظلات ذيلية خاضعة مثل تجمع (الكمونويلث) او ( الفرانكفون) لذلك يمكننا ان نقول ان الدول القطرية في العالم الثالث عامة وافريقيا خاصة لم تأت كتطور طبيعي لهذه الشعوب والمجتمعات بل هبطت اضطرارياً لأن معظم مكونات المجتمع لم تصل الي مداخل المجتمعات المتطورة والانصهار في بوتقة واحده ولم ترتق تلك الشعوب الي مستوي الدولة بتعدد الانتماءات والولاءات مما جعل نخب المركز تسطو علي سلطة ارض وشعب ورثتهما من الاستعمار ووضعت امام امتحان صعب إزاء بناء الدولة الحديثة.
تقمصت نخب قبيلة المركز صفة شرعية الدولة القانونية وفصلت الدولة علي نفسها دون الاكتراث لمكونات الدولة الاخري بحدودها السياسية وادارت دولاب الدولة لاستغلال خيرات الاوطان ونهبها للمركز وأعدت آلة بطش واستوردت كل المنتجات القهرية واختارت الأفراد بغربال دقيق وأهلتهم في كل صنوف التعذيب وتمت ترقيتهم وتحفيزهم وفق ابداعهم في كبح حقوق المواطن واذلاله.
الحقيقة الماثلة للعيان هذا الاسلوب لإدارة الدولة من قبل نخب المركز خلال عقود الدولة القطرية في العالم الثالث أدي الي التناحر الداخلي ووصل اوجه بالانفجار الذي تعيشه المنطقة العربية من دمار وقتل والاصطفاف علي الأطر التقليدية طائفية او جهوية وبرز تحدي بين المجتمعات التي تكون الدولة ومواجهة آلة الدولة للشعوب وقمعها هذه الازمات المؤلمة التي أدت للقتل علي اساس الانتماء الطائفي او القبلي او الجهوي الذي ينخر في الدول العربية مثل سوريا والعراق ومصر وليبيا واليمن بل احتمال استمرار العدوى لباقي الدول العربية الاخرى مالم تجتهد النخب بتغيير عقلية التعامل مع هذه التركة السيئة.
اما في افريقيا جنوب الصحراء فقد أدَّى فشل النخب الي الاقتتال علي أساس اثني وقبلي وجهوي وحصاد الارواح بشكل مريع وتجاوزت الحروب الحدود السياسية، وأسوأ الحروب استمرار الحرب في الصومال والانفجارات المفاجئة وتطورها السريع والمريع في كل من مالي وافريقيا الوسطي وأخيراً جنوب السودان أحدث دولة في العالم، هذا الصراع قد يمتد الي يوغندا والسودان واثيوبيا وكينيا بحكم التداخل المجتمعي وتقاطع المصالح، وكذلك ألسنة البركان تلتهم أطراف السودان في كل من دارفور وجنوب كردفان والنيل الازرق.
وبالرغم مما قدمه الشعب الارتري في ملحمة الكفاح المسلح والاندماج السلس لكافة فئاته ومكوناته الاجتماعية وتقديمه كل الاتعاب حتي اصبحت اداة نداء الشعب (اخي الثائر) (حو تقادلاي ) وكان حلم الشعب الارتري المكافح اقامة دولة نموذجية في التعايش السلمي والعدل والمساواة والسلام تستهدي به شعوب ودول المنطقة. الا ان هذه الاحلام والامال تبخرت منذ الوهلة الاولي من قيام الدوله الارترية حيث اختزلت نضالات وتضحيات الشعب الارتري علي فصيل الجبهة الشعبية المولود عام 1975م بل تماهت النخبة من قبيلة المركز وانفردت بالدولة ومارست ابشع وسائل البطش ولم يسلم حتي الشرفاء من داخل المنظومة نفسها والذين كانوا يأملون في تنفيذ حلم الشعب الارتري في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية بل كان مصيرهم القتل والاقتياد الي المجهول.
تبددت احلام الشعب الارتري في العيش الكريم والسلام مما اضطره للجوء مرة اخري واصبح الشباب الارتري يشكل اعلي رقم في الهجرة الغير شرعية هرباً من القهر والعوز بالرغم من المخاطر من غرق حيث اصبح اجساد ابنائنا الغذاء الرئيس لحيتان البحر الابيض المتوسط والسلعه الرائجة لبيع الاعضاء البشرية في سوق النخاسه كابشع جريمة يندَى لها جبين المجتمع الدولي ناهيك عن الانسان الارتري.
الممارسة القهرية لدكتاتورية نخب المركز الفاسدة والقبضة الحديدية والاضطهاد الثقافي والاجتماعي والطائفي الذي تمارسه والانهيارات المريعة التي تشهدها المنطقة من حولنا أدخل الدولة الارترية في عنق زجاجة صار معه انفجارها قاب قوسين أو أدني.
إن المسئولية الوطنية وصيانة امانة الشهداء تفرض علي كافة ابناء الشعب الارتري مواجهة المخاطر وما يترتب عليها من المسؤلية وأن التحدي الذي يواجهه المجتمع الارتري عموماً والنخب الوطنية علي وجه الخصوص ليس اسقاط حكومة جنرالات قبيلة المركز فحسب بل التحدي الاساسي في انقاذ البلد من الانهيار ومستقبل الدولة الفاشلة التي تنبأ به خبراء عديدون وفق القراءة المنظورة لطبيعة النظام المفرط في القوة وشكل المعارضة المتباينه الي حد بعيد والضعيفة.
إن أولوية رتق النسيج الوطني والاجتماعي تقع بالأساس علي أبناء قبيلة المركز الرافضين لتوجـُّــه هذه النخبة الفاسدة وعليهم بذل أقصى مجهود لرفض الممارسة الإقصائية التي عانت منها مكونات البلاد الأخرى وأن يقروا بالمظالم التي عبرت عنها مكونات الدولة الارترية الأخرى سواء كانت ثقافية أو طائفية أو قومية أو جهوية واعتماد حوار مفتوح غير مشروط دون الطعن في محاولات الدفاع عن الذات أو النظر بدونية للعمل المعارض السابق من ورش ومؤتمرات وأجسام ووسائل نضالية نشأت منذ فجر الاستقلال وأبقت علي جذوة مقاومة هذا النظام الجائر بالرغم من ضيق ذات اليد ومساحة العمل، بل جادت بأفواج من الشهداء والمعتقلين، وعلي نخب قبيلة المركز المقاومة أن تقر بمقولة ( نحن اللاحقون وشركاءنا في الوطن هم السابقون ).
ومن العدالة والمسئولية أن نلتفت الي تجربتين مهمتين في المعارضة الارترية وهي التحالف الوطني الارتري الذي نتج عن حوارات وسمينارات واختلاف واتفاق حتى وصل الي ما هو عليه وما يزال يمثل إرثاً نضالياً ومشروعاً تتمسك به بعض الفصائل فمن الأجدى والأفضل أن نعتبره محوراً أساسياً من محاور المعارضة بما يضمه من عشر تنظيم وحزب تؤمن بميثاق تراضت عليه، والتجربة الثانية هي تجربة مؤتمر أواسا الذي ضم غالبية القوى السياسية الارترية ومكونات الشعب الارتري ومنظمات المجتمع المدني، وبالرغم من الاخفاقات والخلل الاداري الذي شاب هذه التجربة علينا أن لا نقر اعتبار مجلس التغيير حقل اختبار لها أو مقياس الفشل لتطور العمل المعارض البديل، بل يجب أن نعتبر صراعات قوى المجلس مران طبيعي وصحي في إدارة الخلاف عبر المؤسسات وتعميق التجربة الديمقراطية لحل الخلافات، وأن يكون ديدن القوى اللاحقة من نخبة قبيلة المركز التي تقاطعت مع النخبة الحاكمة الفاسدة والتي تعتبر رافداً أصيلاً لعمل المعارضة أن تكون غايتها إخراج البلاد من النفق المظلم الذي تعيشه وينتظرها، وعلي الجميع أن يأخذ بالمتطلبات الأساسية للمخارج واعتماد إقرار التباين الإثني والثقافي وضرورة مد جسور التفاهم ومحاربة الاقصاء والتهميش بكل أشكاله وتشجيع الشفافية في تقاسم السلطة والثروة والإقرار بضرورة التحول الديمقراطي وإقامة ورش عمل وقوالب تساعد علي ذلك من إقامة منظمات فئوية مدنية مثل الشباب والطلاب والمرأة وكذلك التنظيمات المهنية من اتحاد قانونيين وأطباء وصحفيين خارج الشوفينية التنظيمية والتبعية الذيلية للكيانات القائمة وكذلك المنظمات والجمعيات الانسانية لتواكب المشاكل الاجتماعية التي يمر بها شعبنا لتقدم خدمات التعليم والصحة في معسكرات اللاجئين ومواجهة مخاطر ما يتعرض له اللاجئ الارتري في كل مكان بالإضافة لمواجهة أي طارئ قادم.
إن تحديد قنوات الحوار وإيجاد وسائل الحلول وقيام المؤسسات لحل القضايا الخلافية ووجود جسم جامع لكل أطياف الشعب الارتري هو الذي يطمئن شعبنا أنه بالإمكان تجاوز المحنة وقيام دولة مؤسسات تقوم بملء الفراغ أو تتصدى لكل المهلكات التي تواجهها الشعوب من حولنا وتنبئ بمستقبل مشرف لهذا الشعب المميز في العطاء والمثابرة والتوافق والعيش الكريم..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى