إبراهيم شـــــــــل …هشـــيم الذاكـــرة

بقلم/ عمر جعفر السوري

اعتادت امرأة فاضلة من سكان العاصمة السودانية، الخرطوم، أن تقضي مع أبنائها عطلة المدارس الصيفية عند أهلها في ارتريا. كانت تسافر براً الى اسمرا عن طريق كسلا وتعود كذلك براً. وذات مرة لما بدأت رحلة العودة إلى منزلها في عاصمة السودان الوطنية، توقفت أيضاً في كسلا، لكنها اختارت الاستراحة في نُزل “الضيقي” الصغير عند أطراف السوق إلى أن تستقل القطار حينما يأذن فصل الخريف والأمطار المنهمرة على طول الطريق، لا سيما في مدن وبلدات الجزيرة، باستئناف حركة القطارات. في السابق كانت تنيخ رحلها عند أقارب في المدينة الحدودية الا انهم غادروا المدينة.

   لم يعتد الناس، في تلك الأيام، إقامة النساء والعائلات فيما يشبه الخانات أو ما يسمونه باللوكندات. كان ذاك النُزل مأوى لصغار التجار ولسائقي الشاحنات ومن على شاكلتهم من عابري السبيل. تردد موظفو النُزل كثيرا قبل أن يفردوا لها غرفة في وسط الساحة. ثم طبق خبر إقامة المرأة وابنائها في ذلك الخان آفاق كسلا وانتشر وصفها واسمها وأسماء أبنائها في جميع انحاء المدينة انتشار النار في الهشيم. عرف بذلك الكافة، ومنهم الأهل والاقارب لكنهم لم يحركوا ساكناً! وفي ضحى اليوم التالي جاء إلى الخان إبراهيم حاج أبو بكر المعروف في المدينة بإبراهيم شل مع زوجه الصالحة وابنائه، كان مديرا لمحطة المحروقات الكبيرة التي يزين شعار شركة شل مبناها ومعداتها وهي تطل على وسط مدخل المدينة المواجه لنادي الميرغنية الرياضي حيث يكون السوق على مرمى حجر. سمع إبراهيم كغيره بالخبر العجيب “والمستهجن”، فهو يعرفها وزوجه تعرفها ويعرفان أهلها في ارتريا وقدرها وقدرهم، تربطهم أواصر وثيقة من المودة وعُرى الجوار والعشرة والالفة. طلبا منها أن تحزم امتعتها لتذهب هي وأطفالها معهما إلى بيتهما في حي “أبو خمسة”، وكان حياً حديث العمران حينذاك. تمنعت السيدة طويلاً ورفضت بشدة قائلة بأن اقامتها في الخان لن تطول سوى يوم أو يومين، لكنهما واصلا الالحاح قائلين انهما لن يبرحا المكان بدونها وسيمكثان معها، فانصاعت لإلحاحهما. ومذاك أصبح منزلهما المترع بالمحبة والكرم الفياض والترحاب وحسن الضيافة محط رحلها في ذهابها وايابها إلى ارتريا اثناء العطلات الصيفية، وكسلا في ذلك الزمان لا يخفى فيها شيء، مفتوحة على مصراعيها، يُعرف الغادي فيها والرائح والواصلون إلى محطة القطار أو الحافلات، والخارجون والداخلون من منفذ الجوازات أو من “اللفة” والمختبئون في مزارع الموز حيث يتسلل اليها المخالفون، كانت تلك الوقائع من أحاديث المدينة وسمر أهلها وزوارها. 

   في ذلك المنزل الممتلئ رغداً التقى أبناؤها نجماً من نجوم كرة القدم كانوا من المعجبين به ومشجعيه، فقد جاء إلى كسلا ابن عم إبراهيم شل لحضور زواج شقيقه، يوسف، من شقيقة زوجه؛وهن كريمتا رجل الاعمال الارتري وأحد وجهاء اسمرا، حسن مبروك. أتى حبشي “محمود الحاج أبوبكر”، نجم فريق الهلال والفريق القومي السوداني، الذي كان في السنة الثالثة من دراسته في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم، ثم أصبح فيما بعد وكيلاً لوزارة الشباب والرياضة إلى المدينة للمشاركة في زواج ابن عمه. ولأن لصاحبي الفرح من شأن ومكانة بين الناس، كانت الدار العامرة تفيض في ذلك اليوم السعيد بالزوار من ارجاء السودان كافة ومدن وبلدات وقرى محافظة كسلا وأحياء المدينة، ومن تخوم ارتريا وأقاصيها ومن جوارهما، يروون الحكايات ويضربون الامثال بألسن عددا، ويسردون قصص الدروب التي سلكوها وساروا عليها والانحاء التي مروا بها بدون تأويل أو تفسير أو ترجمة؛ فمعظم الحضور – نساءً ورجالاً، شيباً وشباباً وأطفالاً – يتقن أكثر من لغة من لغات شرق السودان وارتريا – ويضحك ملئ شدقيه برطانة أو أخرى في مزيج يطرب ويشجي السامعين. 

   قُبيل منتصف ستينيات القرن الماضي أمضى إبراهيم شل بعض الوقت في العاصمة الارترية، اسمرا، حيث تولى إدارة المقهى المشهور الذي يملكه حماه، حسن مبروك، ويتوسط شارع الامبراطورة منن، وهو الشارع الموازي لشارع الامبراطور هيلي سلاسي الذي تغيرت أسماؤه منذ أن كان طريق موسوليني “كورسو موسوليني” ابان الاستعمار الإيطالي، إلى أن استقر الآن بعد التحرير ليصبح شارع الحرية. كان المقهى في اسمرا، من حيث موقعه وتردد الناس عليه، مثيلا لمحطة شل للوقود في كسلا، يمر به وبها غالبية السكان والزوار الذين يستطيع الحصيف معرفة كنههم ويدرك الحذر مراميهم ويقرأ اللبيب مرادهم، خيراً أو شراً. وإبراهيم حصيف وحذر ولبيب، وفوق ذلك ودود، لين العريكة. كان بين فينة وأخرى، لا سيما في الضحى بعد موعد الفطور، يخرج من المقهى على ظهرً دراجته الهوائية يجول بها على مهل بعض انحاء اسمرا ما بين المقهى في شارع الامبراطورة منن وبيت حماه في شارع بحر دار ثم يتجاوز المكان الى الكاتدرائية القبطية نزولاً عبر الحواري ثم صعوداً الى محطة السكك الحديدية، وبعدها يعود الى المقهى مرورا بجامع الخلفاء الراشدين وسوق الأسماك والخضر والفاكهة والمخبز الايطالي نزولاً الى سينما امبيرو في شارع الامبراطور ثم العودة الى المقهى. تتجمع لدى إبراهيم اثناء هذه الجولة تفاصيل صورة حركة الناس في أهم مفاصل المدينة واشكال عسس وعيون أجهزة المباحث الاثيوبية كما ملامح الفدائيين الارتريين الذي يدخلون العاصمة خلسة نهاراً جهاراً، فالليل لا يسترهم بل يكشف سترهم حين تخلو شوارع المدينة من المارة وتجوب حواريها وطرقها قوافل الخفراء والجواسيس. كانت الثورة الارترية قد اندلعت واشتد ساعدها بعد معركة تقوربا وعمليات الفدائيين في المدن المختلفة أصبحت حديث الناس. في غالب الأحيان كان إبراهيم يجد بعض هؤلاء وأولئك الخصوم في المقهى يحتسون الشاي أو يتناولون فطوراً خفيفاً. كان يدعو الا يكتشف أحدهم الآخر فيندلع قتال لا يريده أحد في هذا المكان. في بعض الأحيان كان يشير خفية بعينيه للفدائيين بمغادرة المكان، وكانوا يغادرون الواحد تلو الآخر دون جلبة أو لفت للأنظار.

   كان منزل حماه يتوسط منزل أحمد ولّو، وهو واحد من أهم العناصر الاستخباراتية العاملة في قصر الحاكم العام الاثيوبي “القبي”، ومنزل الكفالييري علي تامر، رجل الاعمال والوجيه المعروف. كان أحمد ولّو مسلماً من قومية الارومو الاثيوبية، ومشهوراً بين الناس، همساً، بالقالاوي. يكره الارومو تسميتهم بالقالا ويشمئزون منها، مثلما يكره التقراي تسميتهم بالعقامي وينفرون منها. كان أحمد قصير القامة، سريع الخطى، ذرب اللسان. يخرج من بيته الى القصر ويعود اليه سالكاً طرقاً مختلفة في كل يوم. كان يعرف أهل المدينة والقاطنين إلى جواره أو على دروب القصر يتجاذب معهم أطراف الحديث ويحاول أن يلتقط معلومة من هنا أو من هناك وشكوى عن حال من الأحوالبما فيها قلة الامطار في ذلك الموسم. كان يتوقف عند صاحب الحانوت اليماني المواجه لمنزله والمتزوج من ارترية مسيحية، ثم يعرج على محل صانع الأحذية والجلديات الإيطالي، ماكلوزو، الذي يظل جالساً خلف طاولته طيلة اليوم كأنه جزء من ديكور المحل، ومن خلال الازقة كان يصل الى شارع الامبراطورة فيتوقف قليلاً عند دكان الدراجات الهوائية الذي يملكه الحاج عمر سايس، ثم صعوداً الى القصر، وفي اليوم التالي يسلك طريقاً آخر يقوده الى شارع الصاغة فيتوقف عند دكان أبو القاسم تبيدي المزدحم بالنسوة، ويأتي الى بائعي الصحف والخردوات الحضارم، وهكذا دواليك من درب الى آخر صباحاً وفي العودة يسلك طريقاً آخر الى داره مساءً. كان يجمع الاخبار والحكايات، خبراً من هنا وحكاية من هناك، وقيل انه تسبب في اعتقال الكثيرين الى أن قام الفدائيون الارتريون بتصفيته في قلب العاصمة في وضح النهار حينما كانت الثمانينيات تطرق الأبواب. لم يشكل احمد ولّو تهديدا لإبراهيم شل أو حماه واسرته، فقد حماهم منه الجوار والحذر من أذاه.  

   في كسلا، كانت محطة شل هي مركز اتصالات الثورة الارترية. لم تكن الهواتف متوفرة بكثرة في المدينة بل هي قليلة، ولم تكن في مكاتب الثورة الارترية خطوط هاتفية، فلجأوا الى مدير محطة المحروقات، إبراهيم شل، الذي سمح لهم، بأريحية، باستخدام هاتف المحطة لإجراء مكالماتهم أرسالاً أو استقبالاً مع الخرطوم حيث القيادة السياسية الأقرب، وبورتسودان حيث المصادر الرئيسية للتموين والامداد، ومع القضارف احدى ركائز التمويل وبقية المدن السودانية والقاهرة إن استدعى الآمر. لم يكن الاتصال سهلاً، فقد ينتظر بعض أعضاء القيادة الثورية لجبهة التحرير الارترية ساعات طوال في مكتب إبراهيم حتى يتسنى الاتصال، ويمتد ذلك الانتظار ساعات إضافية في موسم الامطار. في هذه الاثناء كانت اخبار المدينة في متناول أيديهم يأتي بها أصحاب السيارات وسيارات الأجرة والشاحنات والسابلة وغيرهم، ويتيح لهم الانتظار رصد عناصر الأعداء. غالباً ما كان مسؤول الاعلام في القيادة الثورية متواجداً في المحطة صحبة أعضاء القيادة الثورية عمر أزاز، مسؤول المالية، أحياناً وأحياناً أخرى محمد إسماعيل عبده أومسؤول الشؤون التنظيمية، محمود محمد صالح، وقادة المناطق والفصائل حينما يأتون من الميدانفي مهمة ما. كان الاتصال في غالبيه الأوقات يجري مع مكتب السكرتارية العامة في الخرطوم، وعلى وجه الخصوص مع عضو المجلس الأعلى لجبهة التحرير الارترية المقيم هناك، سيد أحمد محمد هاشم، ومع سكرتير المجلس الأعلى لشؤون الثورة ادريس عثمان قلايدوس، أو بين أعضاء القيادة الثورية المتواجدين في كسلا وبين من جاءوا في زيارة عمل الى الخرطوم.

   لإبراهيم شل أيادي بيضاء في فترة دقيقة من تاريخ الثورة الارترية، شكلت بداية انتشارها وتكوين المناطق العسكرية الخمس على غرار تجربة الثورة الجزائرية وذلك بعد اندلاعها في الفاتح من سبتمبر/ أيلول 1961. مياه كثيرة جرت تحت الجسر منذ تلك الايام، فهل تحققت آمال وأماني الارتريين بُعيد الاستقلال؟ وهل ما زالت القصص والحكايات تُروى كما كانت من قبل؟!