أخبار

في الذكرى الثالثة والعشرون لاستشهاده :ملف سبي

3-Apr-2010

المركز

الشهيد سبي … ذكريات وخواطر .. محمد سعيد ناود
حررها : محي الدين علي
” أبو الإصرار ” هو اللقب المحبب الذي كان يطلقه الشهيد عثمان سبي على صديقه ورفيقه محمد سعيد ناود ، ولايعلم بهذا اللقب سوى المقربين من تلك الدائرة الضيقة التي كانت تجمع أقرب الناس إليهم ، وفي مكتبة المناضل محمد سعيد ناود ، هناك أعدادا من الكتب وعليها الأهداءات بقلم الشهيد سبي ” لأبو الإصرار” صديقه الوفي .

عود تاريخ العلاقة والصداقة التي جمعت بين الرجلين إلى نهايات العام 1969 ، وكلاهما كانا في مواقع قيادية منذ وقت مبكر تعود لسنوات طويلة إلى الوراء وان اختلفت المواقع ، فالشهيد سبي من المؤسسين الأوائل لجبهة التحرير الإرترية في مطلع الستينات ، والمناضل محمد سعيد ناود هو مؤسس وقائد حركة تحرير إرتريا في العام 1958م ، وبرغم احتدام الصراع بين التنظيمين والخلافات العميقة بينهم التي وصلت إلى حد التصفية العسكرية لمجموعة الحركة المسلحة في منطقة “عيلا طعدا” من قبل جبهة تحرير إرتريا بحجة أن الساحة الإرترية تضيق بتنظيمين ، برغم ذلك لم تتح الفرصة للقاء الرجلين إلا عندما بدأت الخلافات تدب في أوساط جبهة تحرير إرتريا وذلك في نهاية الستينات ، وفي هذا الإطار يقول المناضل محمد سعيد ناود : (( وقد كان سبي أحد أعضاء المجلس الأعلى لجبهة التحرير الإرترية ثم سكرتيراً لعلاقاتها الخارجية ، وكان رحمه الله ومع غيره من قيادة ” جبهة تحرير إرتريا ” متطرفاً في خلافه وخصومته لحركة تحرير إرتريا . وأثناء ذلك الخلاف والذي دام لعشرة أعوام لم نلتق ولو لمرة واحدة ، ولم نتعرف على بعضنا البعض إلا في عهد ” قوات التحرير الشعبية ” )) . ويضيف المناضل ناود : ((فالانقسام الذي جرى في صفوف جبهة تحرير ارتريا لم يكن وليد لحظة بل انه كان تراكما لعدد من السنين ، كنتيجة صراعات ومنافسات بدأت في قمة التنظيم وانتشرت إلى الكوادر الوسطية ووصلت أخيراً إلى القواعد . وان ذلك الانقسام شمل الداخل والخارج على حد سواء . وقد كانت محور ذلك الانشقاق وفي مراحله الأخيرة هي ” القيادة العامة ” والتي تمكنت من السيطرة على الميدان العسكري وكانت تقف الى جانبها معظم القيادات والكوادر والقواعد العسكرية )) . وعن خلفية الشهيد سبي ، حول مولده ونشأته ودراسته يقول المناضل ناود : ((ولد عثمان صالح سبي في قرية ” حرقيقو ” وذلك في عام 1931م . وألتحق بمدرسة حرقيقو التي افتتحت سنة 1944م وذلك على حساب المحسن الكبير صالح باشا أحمد كيكيا والذي كان من الأثرياء المرموقين في ذلك الزمان ، وكان مهتماً بالتعليم حيث أفتتح فصولاً للبنين والبنات في تلك المدرسة . كما أفتتح بها قسماً صناعياً . وفي هذه المدرسة فأن عثمان صالح سبي درس المرحلتين الأولية والمتوسطة . وعلى نفقة الباشا صالح كيكيا درس المرحلة الثانوية في أديس أبابا ثم التحق بكلية المعلمين هناك أيضا وأتم بها الدراسة . وعند عودته من أديس أبابا تم تعيينه أستاذا بالمدرسة التي درس بها في حرقيقو . وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي تم تعيينه مديراً لنفس المدرسة . أثناء دراسته في أديس أبابا تعرف سبي على الكثيرين من أبناء القوميات المقهورة والمهمشة في أثيوبيا مثل الأورومو ، الهرريين ، الصوماليين وغيرهم . وبالتعاون بينه وبينهم فقد قاموا بتأسيس ” جمعية العروة الوثقى ” للدفاع عن حقوقهم . وفي هذا المناخ بدأ ينضج وعيه السياسي . وهو ومعه هؤلاء كتبوا عهداً وميثاقاً بدمائهم ، وهو عبارة عن مبادئهم للدفاع عن حقوقهم . كما أن المرحوم شقيقه محمود سبي كان من ضمنهم وقد حكى لي ذلك بنفسه وليس على لسان شقيقه عثمان . كان عثمان سبي مهتماً بالتعليم منذ أن كان أستاذا ومديراً بمدرسة كيكيا باشا في حرقيقو . وعندما رأى بأن فرص التعليم في ارتريا شبه معدومة نتيجة السياسة الأثيوبية فأنه شرع في تهريب بعض طلابه من قرية حرقيقو الى مصر . وكان يبعث بهؤلاء الطلاب إلى السودان سراً ، حيث يقوم الأخوان المسلمون هناك باستقبالهم وتسهيل مواصلة سفرهم إلى مصر من أجل التعليم . وكان الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد زعيم الأخوان المسلمين بالسودان أطال الله في عمره على علاقة بعثمان صالح سبي منذ أيام ” العروة الوثقى ” وكان يقوم باستقبال هؤلاء الطلاب وإيوائهم ومن ثم مساعدتهم لمواصلة سفرهم إلى مصر. ومن طلابه الذين كان قد بعث بهم إلى مصر آنذاك فبعضهم قد رحل عن الدنيا والبعض لازال على قيد الحياة ، وآخرون منهم يعملون حالياً في مفاصل دولة إرتريا المستقلة )) . ويضيف المناضل ناود : (( وقد تعرفت عليه عن قرب ، فعرفت فيه مثقفاً ويجيد اللغتين العربية والإنجليزية بطلاقة وكان متمكناً منهما قراءة وكتابة وحديثاً ، وبجانب ذلك فقد كان يتحدث التجري والتجرينية والأمهرية . كما كان قارئاً نشطاً في أمهات الكتب ، ومتابعاً للصحف والمجلات العربية والإنجليزية مثل مجلة ” نيوز وييك ” الأمريكية والتي كان يواظب على قراءاتها ، كما كان يواظب على الاستماع إلى عدد من المحطات الإذاعية وفي مقدمتها إذاعة لندن ال BBC بشكل يومي ويعشق صوت المذيعة مديحة رشيد المدفعي . وبالتالي كان ملماً بالأحداث العالمية ، وكل ذلك جعل منه متحدثاً لبقاً ، وفي أي مجلس يحضره كان يجذب اهتمام وأسماع وإعجاب من يجلس إليهم . أيضاً كان يتذوق الأغاني عموماً وأغاني فيروز على وجه الخصوص ويحمل شرائطها معه دوماً . بل وكان يعشق السينما والمسرح )) . من المعروف عن الشهيد سبي انه كان يجيد القفشات وحب النكات والضحك بصوت عال وكل من يجالسه لايتوقع أن الرجل يمكن أن يحمل على عاتقه قضية شعب ومعاناة أمة وهو في هذه الحال من الانشراح ، وهنا ربما أختلف كثيرا عن رفيقه ناود الذي يمتاز بالجدية والعبوس ، وعدم المرح ، والشهيد سبي كان يجد في كآبة صديقة ناود مادة للتندر والتفكه قائلاً : (( … أن الحياة وما بها من مصاعب لا تتطلب هذا العبوس والجدية التي تلازمك دوما حيث لا أراك ضاحكا ، فساعة لربك وساعة لقلبك ، فاضحك للدنيا تضحك لك . موتوا بغيظكم أيها العابثون فجميعكم ستموتون قبلي وأقوم بدفنكم وأنت احدهم ثم ارفع لكم التحية وانصرف عن المقابر واذهب لحالي إلا أن ما سيتعبني هو كتابة رثاءك شخصيا لتقديري لك وللمزايا الكثيرة التي تتمتع بها ) إلا انه رحل عن الدنيا مبكرا وهو في الخمسينات من عمره ، وهذه حكمة الله في خلقه ( وجعلنا لكل اجل كتاب)) . يقول المناضل ناود ، أثناء زيارتي لألمانيا الشرقية في عام 1977م من أجل البحث مع الألمان في مسألة الحل السلمي للقضية الإرترية التي كانت مطروحة في ذلك الوقت ، ولهذه الغاية ذهبت قيادات الفصائل الإرترية ، ومن ضمنها تنظيمنا الذي كنت أمثله ، ومن المعلوم أن الدعوة وجهت لي شخصيا ولم توجه للشهيد سبي باعتباره رئيس التنظيم وأثناء الحوار سألتهم عن سبب عدم دعوة رئيس التنظيم الشهيد عثمان سبي ، وكان ردهم : (( بان سبي عميل لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية c.i.a فدافعت عنه ونفيت هذه التهمة قائلا : إذا كان رئيس التنظيم عميلا وأنا نائبه فبالضرورة أن أكون أنا أيضا عميلا مثله وأضفت ( أن سبي رجل وطني ولا يهمه إلا نجاح قضيته ، وفي سبيلها يتعامل حتى مع الشيطان). ويضيف ناود (( ولكن مسالة تهمة الـ C.I.A كان يرددها آخرون في ساحتنا ضد سبي وأحيانا أمامه ، وكان سبي يتلذذ بتلك التهمة قائلا لمن يتهمه بها : (( ياجهلاء هل تعتقدون أن العمالة للـ C.I.A مسالة سهلة ؟ أنها تحتاج لمؤهلات عالية ، وأنا أسعى للحصول عليها لتسخيرها لقضيتي دون أن أفوز بها حتى الآن )) . ثم يضحك . ألا رحم الله شهيدنا بقدر ماقدم لشعبه وقضيته ، والصحة وطول العمر لرفيقه أبو الإصرار . الشهيد الزعيم الوطني/سبي سبي الثائر والإنسان بقلم/إبراهيم قبيل طلب مني الأخ /محمود ناود إن أساهم بكلمات عن الزعيم الوطني سبي في ذكرى وفاته الثالثة والعشرون كان يخيل لي إنني قادر على إن اخط كلمات تفي الرجل حقه بسهوله لذا أجبته بسرعة فالموضوع محبب إلى نفسي ولكن ما أن شرعت بالكتابة حتى توقف قلمي عن الكتابة لأنني احترت من أين ابدأ هل ابدأ من سبي الثائر الذي عرفناه؟ أم سبي الإنسان عايشناه؟ وظللت على حيرتي أياما قبل أن أكمل مقالي مما حدا بي أن استعين بالذاكرة وأعود إلى الوراء سنوات إلى مرحلة الكفاح المسلح وما تحمله من شجون كثيرة لعلي أجد من بين تفاصيلها ما يبدد حيرتي تلك وفعلا وجدت من بين ثناياها إجابة معقولة لأسئلتي المحيرة وهي إن سبي الثائر هو سبي الإنسان أيضا لا يمكن الفصل بينهما عندما تتحدث عن سيرته. فهو كان يجمع بين المعنيين في آن واحد قلما تجد في سبي شخصية الثائر تطغى بعنفوانها وقوتها وصرامتها وحزمها واندفاعها وإقدامها وحماسها على سبي الإنسان بطيبته وعفويته وسماحته وابتسامته التي لا تفارق شفتيه هاشا باشا في وجه من يلقاه كبيرا كان أو صغيرا قائدا أو جنديا عاديا كريما لا يترد في تلبية حاجة خاصة لمناضل طلبها دون منا عليه ولا أذى طالما هو قادر على تلبيتها حتى لو كان من خصومه السياسيين يوما ما وقال فيه ما لم يقوله مالك في الخمر. مثقف ثقافة موسوعية تجده في اغلب الأحيان بصحبته كتابا يقرأه عندما يخلو بنفسه أو منكبا يكتب مذكرة لجهة ما أو تقريرا لنشاط قام به ويرسله إلى زملاءه ليكونوا على اطلاع منظم بكل ما يقوم به لم يكن يركن إلى التقارير الشفوية التي كان التعامل بها صفه سائدة في الساحة حينها، أو تجده يكتب يومياته وانطباعاته كل يوم يسجل فيها كل ما جرى في يومه يقرءا كل الصحف التي تصدر في البلد الذي يقيم فيه حتى لو أيام معدودة ليعرف ما يجرى في العالم حينها كانت الصحف والإذاعات هي مصدر إخبار العالم الرئيسية ومن الطرائف إن مساعده ومرافقة المناضل طلول كان يحضر له يوميا الصحف والمجلات حتى النسائية منها فهو لم يكن يجيد القراءة وبالتالي لم يكن يميز بينها. كانت الآلة الكاتبة الصغيرة برفقته دائما يطبع عليها المذكرات الرسمية حتى لو كان على الطائرة مسافرا، كان باختصار شعلة من نشاط لم يكن يستسلم للدعة والكسل اللذيذ في أوقات فراغه بل يستغل كل دقيقة من وقته في عمل نضالي حتى تحين ساعة نومه كأنه في سباق مع الزمن يكون قبلها قد صلى صلاة الليل وقراء القران ونام ليصحو مع صلاة الفجر ويبدأ يومه بقراءة القران بعد الصلاة بعدها يبدأ دورة عمله النضالي اليومي. كان سبي مثالا للإنسان المناضل المثقف الذي يحمل هموم شعبه إنما حل لم تكن متع الدنيا تشغل باله كثيرا عكس ما كان شائعا عند اغلب الناس نتيجة الدعاية من قبل خصومه السياسيين التي كانت تصوره على انه من الأثرياء الذي يملك أساطيل من بواخر وغيرها من الممتلكات والحسابات السرية في بنوك سويسرا ولكن عرف كثيرون حقيقته بعد وفاته والغريب بعد وفاته مباشرة وكما ذكر لي أحد الإخوان حضر الواقعة عندما فتحت حقائبه لم يجدوا سوى معجون أسنان وفرشاه ومفكراته الاثنتين وبعض أوراق رسمية وأختام التنظيم حتى أسرته الكريمة واجهت أياما عصيبة من بعده وخاصة بعد الاستقلال ولكن والحمد لله النخوة العربية كانت حاضرة . كانت لسبي أيضا صداقات عميقة يحكمها الاحترام المتبادل والتقدير لشخصه مع الزعماء والأحزاب في مختلف الدول ولا سيما الإخوة العرب لا تزال صورة الشهيد سبي معلقة على جدار مكتب الأمير تركي الفيصل في قصره دون زعماء العالم الآخرين الذين كان يعرفهم الأمير بالطبع لان هذا الرجل كان يحب ارتريا والارتريين حبا جما ولا سيما الشهيد سبي الذي يكن له كثيرا من الاحترام والتقدير ، والمعروف إن للأمير تركي الفيصل ادوار ايجابيه في انحياز المملكة إلى جانب الحق الارتري استكمالا لدور والده الملك فيصل وجده الملك عبد العزيز رحمة الله عليهما فالتحية والتقدير له. لهذه الصفات وغيرها من المواقف والمبادئ التي كانت تتجسد في شخصه كنا لا نكترث حينما يحاول الخصوم السياسيين في تلك المرحلة الجميلة المليئة والغنية بمعاني الحرية والثورية التقليل من شان التنظيم/قوات التحرير الشعبية/ الذي ننتمي إليه حينها وهو نوع من (المكايدة السياسية في إطار الصراع الذي كان قائما بين التنظيمات حينها) بعبارة (جماعة سبي) أو قولهم لنا ساخرين (أولاد سبي) فسبي كان يمثل لنا رمزا وطنيا وثقافيا تتجسد في شخصه كل قيم ومثل المجتمع الارتري الأصيلة و معاني الهوية والوطن والحرية وكان لنا مفخرة. ودارت الأيام وأصبح كثيرا منهم اقرب منا إلى سبي حيث عرفوه عن قرب . لم يكن سبي خاليا من العيوب والمثالب مثله مثل أي إنسان أخر ولكن ما يميزه هو إن ايجابياته كثيرة وضخمة بحجم الوطن ويحتاج الحديث عنها إلى مجلدات ولا أحد يستطيع إن يتطاول عليه أو يقلل من انجازاته حتى أعداءه لأنهم يعرفون تلك الحقيقة جيدا . كان سبي يمتلك الحس والنفس القومي العربي ولم يساوم يوما بأمته العربية حتى عندما حاول الكيان الصهيوني أجراء لقاء معه بوساطة أروبية مقابل استخدام النفوذ اليهودي في العالم الغربي لتغيير مواقفها اتجاه الثورة الإرترية . رفض سبي حتى مبدأ الوساطة نفسها ناهيك عن قبول فكرة اللقاء مع وفد إسرائيلي . هذا الموقف الحازم للزعيم سبي لم ينطلق من حسابات سياسية ضيقة بل موقف مبدئي وإيمان راسخ وانحياز كامل لقضايا أمته العربية ،وقد لخص إيمانه بأمته والمصير المشترك بقوله لأحد الصحف العربية. في احد زياراتنا إلى روما سألونا الطليان مره : ماذا يعطيكم اليسار العربي ؟ قلنا: الفتات . قالوا: ماذا يعطيكم اليمين العربي ؟ قلنا: لا أكثر من اليسار فقالوا: لماذا تصرون على التعامل مع العرب ولماذا لا تتفاهمون مع إسرائيل ؟قلنا لهم: نفضل التعامل مع العرب لأننا عرب , فلا حاجز بيننا بين الاثيوبين سوى الثقافة .. أننا ننتمي إلى حضارة مختلفة وقد حارب الأحباش التعريب ألف سنة. كان سبي زعيما لشعبه بحق وفارسا من فرسان الأمة… ساهم بجهد أكبر في تعبيد طريق الحرية.. صنع ثورة.. طرق كل الأبواب لتوفير طلقة لمقاتل حتى تستمر ثورة وكتابا وقلم وعلم لطفل ارتري مشرد ودواء وعلاج لمريض لاجئا .. صعد كل منبر ليعرف بقضية شعبه.. مشى على دروب مليئة بالأشواك من اجل إن يعبد طريق الحرية لشعبه.. أدميت قدماه وذاق الآلام الضنى.. ولكنه في النهاية بني مجدا لشعبه ووطنه.. ورحل من الدنيا فقيرا. رحم الله أبا فراس وادخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا بقدر ما أعطى لشعبه وأمته . . عثمان صالح سبي كان هو الثورة الارترية د. خلف المنشدي عندما غادر عثمان صالح سبي هذه الدنيا بسبب المرض فانه دون شك لم يغادر التاريخ فقد كان ولا يزال مفصلا أساسيا من تاريخ الوطن الارتري، دافع عن وجوده وطالب باستقلاله بمختلف الطرق وكانت مهنته الأساسية إن جاز لي تسميتها كذلك هي تحرير ارتريا وتحقيق استقلالها الناجز ، ويمكننا هنا توصيفه بلغة العصر الحالية بانه كان وطنيا بلا عنوان سياسي، بمعنى انه لم يكن مهتما بالتفاصيل، تفاصيل اليوم التالي بقدر اهتمامه بان تصبح ارتريا وطنا مستقلا كامل السيادة، واتذكر في لحظة من لحظات يأسه رمى أمامي بصورة ضابط ايطالي لا أتذكر اسمه الآن وصفه الفقيد الكبير بأنه صانع المشكلة الارترية لا لان الضابط الايطالي كان خصما للارتريين وانما كان من وضع اطار الوطن الارتري وبالتالي اعتبره عثمان صالح سببا في معاناة الارتريين، الذين كانوا يعانون الامرين وهم يطلبون العون من هذا وذاك. لم يغادر عثمان سبي لا اليوم ولا في مئات السنين المقبلة تاريخ ارتريا فهذا المعلم السابق بمدرسة حرقيقو الابتدائية استطاع ان يخلق لنفسه مكانة مميزة بين قادة التاريخ الارتري، وتلك المكانة دون شك ستصبح في يوم من الايام مدرسة يتعلم منها ابناء ارتريا شرف الكلمة وطريق الانتصار على تلك الظروف التي عاشها الرعيل الاول من قادة الثورة الارترية، وان كان الفقيد عواتي فجر الثورة بخمسة بنادق صدئة بعض تلك البنادق الخمسة لم يكن بمقدوره اطلاق النار فقد كان سبي وريثا حقيقيا لظروف عواتي فهو الآخر جاء يبحث خارج ارتريا عن دعم لشعبها وثورتها غير المعروفة دفاعا عن البنادق الخمسة الصدئة، وكانت بنادقه السياسية والاعلامية في سني وصوله السودان ودمشق وعواصم العرب صدئة هي الاخرى انعكاسا لبنادق عواتي فقد كانت ثورة عواتي مجهولة تماما، وكان وطن عواتي خارج خارطة هذه الدنيا بعد ان اعتبرته اثيوبيا جزءا منها، لكن عثمان صالح الفارس لم ييأس ولم يقنط، وواصل قتاله داخل اروقة النظام العربي فكون عن طريق الدعم العربي اساسا واحدة من اكبر حركات التحرر الوطني في افريقيا استطاعت فيما بعد رغم انشطارها ان تحقق استقلال ارتريا رغم ان الفقيد الكبير لم يشهد بنفسه ذلك الحلم الكبير الذي كان سببا في معاناته الجسدية والتي ادت لموته. من المهم الاشارة ان المعلم عثمان سبي طور قدراته الثقافية بشكل كبير وتحول الى واحد من اهم المثقفين الارتريين، كتب وأرخ لتاريخ وطنه وكتب الكثير من الابحاث عن ذلك التاريخ، وكان موته خسارة جسيمة لارتريا وهي التي لا تريد ان تتذكره بان تطلق اسمه على شارع من شوارع اسمرا او ساحة من ساحاتها او على الاقل شارع او ساحة في مصوع او حتى شارع في حرقيقو على اقل تقدير فكأن الاختلاف بالرأي لا زال قائما حتى بعد وفاة قائد من أطراف ذلك الخلاف ، وأي قائد هذا يا إخوتي أبناء ارتريا انه عثمان صالح سبي . فضل عثمان صالح ان كان يحق لنا ان نسمي الدفاع عن الاوطان بالفضل كبير وعميم على مختلف نواحي الحقبة التي سبقت الاستقلال المجيد للشعب الارتري، وبالتالي فان هذا الفضل يجب ان يقابله فضل من قبل اخوتي حكام الوطن الارتري الحالي بان يتم تكريم الفقيد عثمان صالح لانه مؤسس قوات التحرير الشعبية التي ولدت من رحمها الجبهة الشعبية والتي حققت استقلال ارتريا، انه قائد الثورة الارترية في الخارج منذ ايام عواتي، انه الشخصية الارترية التي استطاعت دخول منازل الناس في الوطن العربي، انه الذي عرفنا بالثورة الارترية بعد ان كنا نجهل حتى وجود الوطن الارتري، فقد كانت ارتريا مجهولة للجميع فبذل عثمان صالح طاقة فريدة من اجل تعريف الناس بها، وعندما التقيته لاول مره وحدثني عن ارتريا لعنت جهلي، ومنذ ذلك اللقاء الاول تحولت ارتريا الى هم مشترك حملته كما حمله عثمان سبي بين ضلوعي كما هي بين ضلوعه حتى ووري الثرى. عثمان صالح لم يغادر التاريخ الارتري ومن يريد ان يشطب او يمسح ذلك التاريخ فهو واهم لان التاريخ لايمكن مسحه او شطبه لانه هنا شاهد على افعالنا وعلى تركتنا والفقيد اصبح مفصلا من مفاصل التاريخ الارتري بحيث على الدارسين في المستقبل عندما يريدون دراسة تاريخ الثورة الارترية عليهم المرور بتاريخ الرجل فقد كان هو الثورة الارترية مع احترامي الشديد لمن يعاديه حتى وهو في قبره. قد تبدو شهادتي مجروحة بهذا الرجل نظرا لان الناس في ارتريا وخارجها يعرفون عمق الصداقة التي ربطتنا ويعرفون باني احتفظ له باعماق قلبي وضميري بمودة كبيرة لن اتخلى عنها ابدا وهو ميت ولم اتخلى عنها وهو حي، ودفاعي هنا عنه ليس بسبب تلك المودة التي ربطتنا بل لاني على معرفة حقيقية بانه كان وطنيا حقيقيا مثل التاريخ الارتري القديم والحديث وقدمه للناس وعن طريقه انتصرت قضية الشعب الارتري على الاقل في الخارج. تحية له في يوم ذكراه العطرة فهو حي في قلوبنا بإرثه وتاريخه وكفاحه من اجل الوطن الارتري الحبيب. عثمان سبي … الرجل والمواقف بقلم : احمد أبو سعدة دّق جرس الباب لمنزلي ، وعلى غير عادتي ، فتحت الباب لأجد حسن كنتيباي ، مندوب التنظيم الموحد بدمشق أمامي وشكله غير طبيعي .. ( خير ياحسن .. أول كلمة قلتها له ( أدخل ) جلسنا سوية وكانت في يده سيكارة وحسن شاب مهذب ، ويعرف الأصول ، وبغض النظر عن كل ماقيل حول حسن كنتيباي ، فأنا أعتبره رجلاً أمينا ، من خلال عملي وإياه سوية ، ( هل حصل لأولادك وزوجتك شيء لا سمح الله .. ؟ وأنقضّت الصاعقة ( مات عثمان ) . وتسمرت في مكاني ، ولدقائق ونحن صامتان ، وقلت ، وقلت له ( أمس مساء كلّمني صالح إياي ، وقال أن عثمان قد تعافى ، وسيغادر القاهرة إلى السودان ، ( لقد توفي عثمان في يوم 4/4/1988م في مشفى السلام بالمهندسين بالقاهرة . قال لي حسن كنتيباي ( إن عثمان بعد أجراء العملية ، قام بتأدية الصلاة وحدث نزيف في أنفه ومن جراء هذا النزيف توفي ، هذا كل ماقاله لي صالح أياي على الهاتف . قال : ( أخبر أبا سعده ) ، واتصلوا بي وأنا موجود في فندق ( سونيتا بالقاهرة ) . وعلى الهاتف قال لي صالح اياي ( تعال إلى هنا ! ) ، كان صالح صديقي الحميم ، وكان يريدني دائما إلى جانبه ، وأنا كذلك لكن الأمور لم تكن في صالحنا ، قلت في نفسي ( ماذا سأفعل إذا ذهبت إلى مصر ) ؟ وآثرت البقاء في دمشق مع حسن كنتيباي ، لنفكر ماذا سيحدث لهذا التنظيم غير المجيد ؟ ) . رحمة الله عليك ياعثمان ، والله يساعد الشعب الإرتري ، رغم كل تصرفات عثمان سبي ، إلا أنه كان رجلا وطنياً عربيا ، ثقافة وعملاً ، والآن وقد مضت على وفاته تلك السنوات ، وأنا أعتبر وفاته بهذه الطريقة أمر غير طبيعي ؟ وكنت قد شككت بظروف وفاته وأطلعت الرفاق عليها . هل سمعتم أن أنسانا يموت من جراء عملية جيوب أنفية ؟ إن عثمان كما أعتقد ـ مات مقتولا ! والتاريخ هو الذي سيثبت صحة هذا الكلام أو خطاءه . في يوم من الأيام كنت أنا وصالح أياي في السودان قال لي : ( بماذا تفكر يا أحمد ؟ ) لم أكن أريد أن أخبره ، أو أثبط من عزائمه بأن هذا التنظيم ، أي التنظيم الموحد غير متجانس ، ولا أرى فائدة ترجى منه . قلت له ( الاترى الأوضاع السائدة في هذا التنظيم ياصالح ؟ أليس من الصعب أن يلتقي الأخوة الأعداء في تنظيم واحد ؟ . وللمرة الأولى شعرت بأن صالح اياي تراوده فكرة التخلي عن العمل النضالي ، حيث قال لي : ( والله يا أحمد أنا تعبت كثيراً لكن الوطن غالي ) . وأحسست بأن صالح يشعر ويعرف ، ماأشعر به وأعرفه ثم قال لي ( أن الأخ عثمان سبي رجل وطني ، رغم كل تصرفاته ، وهو أفضل الموجودين ، وهو معروف ومقبول عربياً ودوليا ، وعلينا أن نعمل وإياه ، ولربما استفاد من تجاربه . قال لي عثمان سبي ( لقد صورتني كثيراً ولم أر شيئا من هذه الصور وأنا لدي آلة تصوير ، ولنترك الأخوان أن يلتقطوا لتا صورة سوية ) . ومشيت مع عثمان على شاطئ البحر قال بلهجة هادئة لاتخلو من الحزن : يا أحمد أن شهر رمضان المبارك قادم ، وأنا أريد أن أمضي هذا الشهر الكريم مع عائلتي وأولادي في دمشق ، فأرجو أن تعمل جهدك ، ليسمحوا لي بدخول سورية ، ولو لمرة واحدة في شهر رمضان ، حتى أقضي هذا الشهر مع عائلتي وأولادي ، أرجوك أن تعمل جهدك . قلت له : ( والله سوف أعمل جهدي ، وأنقل هذا الكلام إلى الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي الرفيق عبد الله الأحمر ) . وافترقنا على أن نلتقي في السودان ، بعد انتهاء عملي ، وقبل شهر رمضان ، عدت إلى دمشق وقابلت الأستاذ عبد الله الأحمر ونقلت له رغبة الأخ عثمان سبي . فقال لي الأمين العام المساعد : ( نرجو أن يحصل خير ) . لكن عثمان مات . وقد سبقت يد المنية ، تحقيق أمله بزيارة دمشق أثناء شهر رمضان الفضيل ، رحمة الله عليه. سبي العربي ـ الإرتري : في يوم من الأيام سألني الشهيد سبي : يا أخ أحمد ! إذا لم يلتفت العرب إلى إرتريا بشكل جدي ، فلن يكون لها الوجه العربي بعد الاستقلال ؟ !! نعم ، صدق عثمان سبي في رؤيته للمستقبل … هذا هو الموجود الآن في ارتريا ، لقد خسرنا ارتريا عربيا ولو إلى فترة من الزمن ، قصيرة أم طويلة رحمه الله . لقد أتى من الساحل الإرتري العربي ، وإن قريته ” حرقيقو ” التي دمرّها الأثيوبيون ، وحرقوها ، كانت من المناطق المنظمة والمهمة في الثورة ، فلا عجب أن يخرج القائد عثمان من الجذور الشعبية ، ليقول الحق ويعمل من أجل بلده . كان يعمل الشهيد مدرسا قبل أن يلتحق بالثورة ، ترك التدريس وقريته وألتحق بالثورة . وعندما كنا معا في ( روما ـ ايطاليا ) ذات مرة وكان مستاءاً ومتضايقاً وضجرا ، فقد كان يعمل ليلا نهارا دون ملل أو كلل ، كان يقول لي : الوقت يا أحمد لايرحم ، وخاصة أن فرص نجاح الثورة ، بدأ يضعف لكثرة الانشقاقات . حاولت أن أقول له : أنت أول من عمل الانشقاق ، في الساحة الإرترية ، ولكن لم أقل هذا حتى لا أضيف على همه . قال عثمان : أسمع يا أبو سعدة : إن بروز إثيوبيا ألاشتراكية ، ودعم المنظومة الاشتراكية لها وقبل هذا كان المعسكر الغربي ، يدعمها فضلاً عن إسرائيل التي كان يصرح مسئولوها بأن أثيوبيا الماركسية ، أفضل من ارتريا العربية ، ولامجال لإعطاء البحر الأحمر إلا صفة واحدة ( وهي إستراتيجية ) وهو موضع تفاهم وصلة بين الوصفين في غير صالح القضية الإرترية . هذا ما قاله لي عثمان ، في كل مكان التقيت به ، كان يحب سوريا كثيرا وسألته : لماذا تحب سورية ؟ وأجابني على الفور : لأن سوريا هي أول من وقفت مع الثورة ، وأعطتها السلاح والخبرات . كان يقول : الاستقلال قادم لا محالة ، وان تأخر . لقد كان خائفا من الانحراف ، كما كان يقول دائما وكما أسلفت وذكرت . في جلسة في روما ضمتني مع عثمان ، وكان بصحبته عمر برج وطه محمد نور قال عثمان: اذهبا فأنا أريد أن أتمشى مع أبو سعدة ، وأضاف ضاحكا ً : ( ربما يريد أن يدبر لنا مقلبا جديدا ً ) . دخلنا إلى فندق / الأكسلسيور / صاحب النجوم الكثيرة ، هذه هي المرة الأولى ، التي أدخل فيها هذا الفندق ، والمعروف في ايطاليا والعالم بعراقته وجماله . جلسنا في ركن منعزل وطلبنا ” الكابتشينو ” وتحدثنا ، أحسست من حديث سبي ، بأنه كان يثق بي ثقة تامة على الرغم من كل مافعلته معه . وسألته : ياعثمان … ألا تسألني عن الأسباب التي دعتني للانحياز إلى جبهة التحرير الإرترية ! ألا تسألني عن الأموال التي أخذتها منك ، وأعطيتها إلى الجبهة ، بشكل مباشر أو غير مباشر . ضحك وسأل : أين ذهبت هذه النقود ؟ إنما ذهبت للارتريين ، إنها ليست في جيبك . مرارات الشهيد سبي مع ألأشقاء العرب : بعد سنوات التقيت مع الشهيد سبي في جدة ، وكان معنا الأخ صالح اياي ، اتفقنا أنا وعثمان وصالح أن نلتقي في مدينة كسلا ، بعد أسبوعين وأنا أسافر إلى دمشق وهم يسافرون إلى أحدى الأقطار العربية ( …. ) وهناك يقبضون التبرع السنوي المقرر لجبهة التحرير الإرترية وهو عبارة عن مليون دولار ، ومضى الأسبوعان أتصل بي عثمان من هذه الدولة وقال لي : لم نقبض حتى الآن ، ونحن منتظرون ، لاتتحرك من دمشق قبل أن نخبرك . ومرت الأيام وتلتها الأسابيع والشهور ، وأنا في دمشق أنتظر وهم ينتظرون المبلغ ، كنت أتصل بهم هاتفيا كل فترة وكنت أسألهم : ماذا تفعلون ؟ لماذا تأخرتم الآن ؟ لقد تشاجرت مع صالح أياي على الهانف وحين قلت له ماذا تفعلون لغاية الآن ؟ أهكذا اتفقنا ؟ إننا نلعب ؟؟! وأقفل صالح الهاتف . استمرت هذه الحالة ثلاثة شهور ، وهم يترقبون الفرج ، وأزفت الساعة ، وسلموهم الشك بمبلغ قدره مليون دولار ، ولكن الذي سلمهم الشيك قال لهم : أعطوني شيئا ، وحدد لهم ماذا يريد / 25/ بالمائة عمولة . وافقوا ونزلوا إلى البنك ، يريدون صرف الشيك ، ليأخذوا نصيبهم ونصيب صاحبنا ، قال لهم المسئولون ، في البنك عليهم الانتظار ، حوالي الأسبوعين ، حتى يذهب ويعود الشيك إلى أمريكا . وقالوا : كيف ننتظر أسبوعين وما العمل ؟ أذهبوا إلى صراف خاص وهو يدبره لكم . وأعطوهم اسم الصراف الخاص ، وذهبوا إليه فرحين ، انه سوف يساعدهم لوجه الله ، وشر البلية مايضحك ، قال لهم الصراف : على رأسي وعلى عيني ، أنا أريد أن أخدمكم يا أخواننا الثوار ، لكني أريد عمولة وهي 10% . وقبلنا لأنه ليس في اليد حيلة ، وأمرنا لله . قبضنا المبلغ وعدنا إلى الفندق ، وحجزنا بالطائرة إلى تونس ، وعند مغادرتنا الفندق أتتنا فاتورة الحساب بمبلغ تساوي 15% من قيمة الشيك ، وتساءلنا ( ألسنا نحن في ضيافة البلد ) لا … هكذا التعليمات ، ودفعنا الـ 15% من قيمة الشيك ، وغادرنا بما تبقى معنا وهو نصف المبلغ . الحمد لله إنا خرجنا سالمين . ألا تصلح هذه القصة أن تكون حلقة تلفزيونية ؟ هكذا كان يعامل بعضهم الإرتريين . ألا رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته ذكرى الاستشهاد والانطلاقة محي الدين علي تتزامن الذكرى الثالثة والعشرون لاستشهاد المناضل عثمان سبي مع الذكرى الثانية لانطلاقة موقع ( ناود للكتاب ) ولم يكن هذا التوافق مصادفة فقد أردنا أن تكون الانطلاقة وذكرى الاستشهاد مناسبتين هامتين من خلالهما نؤكد على الاستمرارية وعلى المزيد من النضال على خطى الشهيد ولاسيما في الجانب الثقافي وجانب الكتابة والتدوين والتوثيق والذي أعطاه الشهيد الجزء الأكبر من حياته ، فإلى جانب النضال اليومي الذي كان يخوضه في صفوف التنظيم والثورة على الصعيد السياسي والعسكري ورغم مشغولياته الكبيرة والمتعددة فقد أولى الشهيد عناية خاصة بالتسجيل والتوثيق والنشر لعدد من الإصدارات الإرترية التي تمثل دون شك مراجع هامة لكل باحث ولكل دارس يود التعرف ليس على تاريخ وتجربة الثورة الإرترية وحسب بل وعلى التاريخ القديم والوسيط لإرتريا الشعب والوطن ، واحسب أن ذلك كان يمثل مرحلة متقدمة من الوعي والإدراك للشهيد من منطلق قناعته الراسخة أن المواطن المدرك لقضيته والمقاتل المتفهم لطبيعة نضاله وثورته وكيفية تمثله لأهداف الثورة هو الذي يمكن أن يعول عليه في استمرار الكفاح الذي يهدف إلى اقتلاع جذور الاحتلال من ربوع وطننا ويجنبنا مهاوى الانزلاق في الصراعات غير المبررة في صفوف الثورة ، وكثيرا ما كان يواجه بالنقد لاهتمامه بالجوانب الثقافية على حساب أصعدة أخرى وذلك من قبل بعض الجهلة ولعلهم أدركوا في مراحل لاحقة أهمية ذلك . يعتبر الشهيد سبي من القيادات الإرترية التي تفردت بتسجيل يومياتها بشكل دائم مسجلا فيها الأحداث الخاصة والعامة التي تمر عليه ، بالإضافة إلى انطباعاته الخاصة عن الشخصيات التي يلتقيها في إطار نضاله اليومي ، وقد سنحت لي الفرصة للإطلاع فيما سلمنيه أنجاله عن بعض الأوراق التي تتعلق بتلك اليوميات يبدو ومن أسلوب صياغتها واضطراب تنسيقها وخطها ومباشرة أسلوب الكتابة فيها ، يبدو أن الشهيد لم يكن يعدها يوما للنشر بل ولا أظن أن خطر في باله يمكن أن يطلع عليها أحد نظرا للتعمق في الخصوصية الشخصية والعائلية لبعضها ، بل كان يكتبها لنفسه مسجلا فيها خواطره وأحاسيسه بشكل مرهف ربما كان ينفّس من خلال تلك الأسطر عن الكثير من حالات الكرب والضيق التي كانت تنتابه من معاناة شعبه تحت ظل الاحتلال ومجاهداته مع رفاقه ، وكانت تلك اليوميات والتسجيلات بمثابة اعترافات يدلي بها لنفسه فتأتي مصداقا لحياته وتفكيره . ومع ذلك يمكن أن أؤكد أن هناك الكثير الكثير الذي لم يسجله الشهيد طوي في صدره باستشهاده لأنه كان يردد دوما أن هناك الكثير ممايود قوله وكتابته بمجرد انتصار الثورة حيث سوف يتفرغ للتأليف وكتابة مذكراته ويومياته . كثيرا ما سنحت لي الظروف لمجالسة الشهيد في منزله بدمشق ، وكانت سعادته ظاهرة وهو يدعوك للجلوس إلى مكتبته التي تغطي الجدران كاملا ، حيث يطوف بك الشهيد بين رفوف تلك المكتبة العامرة بأمهات الكتب العربية والأجنبية والوثائق النادرة للثورة الارترية ويأخذك في حديث شيق عن مؤلف بعينه مسترسلا في تفاصيل الكتاب والكاتب ، وأنت لاتستطيع سوى التركيز والمتابعة والاندهاش أيضا نظرا للأعداد الكبيرة للكتب ودقة تنسيقها وتجليدها ، ولظرف ربما يمكن التحدث عنه في مرة قادمة طلب مني مرافقة صناديق معبأة بتلك الكتب والوثائق ضمن سيارة شحن عسكرية تابعة لقوات الصاعقة الفلسطينية متجهة نحو العاصمة اللبنانية بيروت حتى تحفظ في دارته هناك ، ولكن يبدو أن مليشيات الحرب الأهلية اللبنانية في حينه كانت قدرت إن هذه الصناديق صيد سمين وتم الاستيلاء عليها من منزله الكائن في كورنيش المزرعة وتم الدخول بشأنها في مساومات ومفاوضات وتم دفع مبالغ طائلة لاستردادها ولكن يبدو أنها أي تلك الوثائق وجدت طريقها إلى أجهزة الأمن الإثيوبية وربما لأجهزة أخرى التي دفعت مبالغ طائلة للحصول عليها ، وكم كان الشهيد يبدي الحسرة والألم لفقدانها ، لأنه كان يقول هو لم يجمع تلك الوثائق وذلك الأرشيف إلا للآخرين الذين سوف يأتون من بعده يوما ما ويتمكنون من الاطلاع عليه والاستفادة من محتوياته . ومع ذلك لم تنثني عزيمة الشهيد في إعادة المحاولة لجمع الأرشيف مجددا وتكوينه من جديد . وكما سبق وأن أشرت عند تجدد ذكرى استشهاد الزعيم سبي مايحزنني حقا هو عدم الالتفات والاهتمام للتاريخ الثر الذي خلفه الشهيد من أوراق ويوميات دون أن ترى النور وتبني أي جهة ارترية تنظيمها وترتيبها تمهيدا لنشرها ، لأن الواجب يقتضي أن نسكب هذا التاريخ الحي في وجدان شبابنا الصاعد الذي يجهل ماضي ونضالات الآباء والأجداد ماقبل الاستقلال ، وتعريفهم بيوميات الكفاح الذي سطره أسلافهم حتى ينعموا هم بوطن ترفرف فوقه رايات الحرية والاستقلال . وهنا يجب أن تتضافر الجهود الخاصة لرفاقه وأبناؤه وتلامذته مع الجهود الحكومية وخاصة في الشئون الثقافية للجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة باعتبارها الجهة المنوط بها البحث والحفظ والتدوين لأي تراث للثورة الأرترية ، بل واي جهة ارترية ترى في نفسها الكفاءة عليها بالاتصال بذوي الشهيد من اجل الحصول على هذا الأرشيف ، وسوف نظل ننادي ونعمل من أجل أن يتم حفظ ونشر تراث شهيدنا الغالي . عثمان سبي … ثائر القرن الإفريقي م .ع www.nawedbooks.com يصادف اليوم الرابع من أبريل ذكرى رحيله المبكر ، وغيابه ألقسري الذي جاء قبل أوانه ، أتأمل صورته في خشوع واضطراب ، .. أنه صخرة صلدة في وجه تلاطم الأمواج ، وصراع الحق والباطل ، وفي مواجهتها لكيد ألأعداء والمتآمرين . أتأمل عينيه البراقتان في وحي الظلام الحالك ، وقد اشتعلتا شموسا وأقمارا تنير الطريق والسبيل لأجيالنا التي تسير بخطى حثيثة نحو التقدم والنماء … فتلك بسمته المميزة والمعروفة والتي لا تفارقه دوماً … أنه عاشق إرتريا والمسكون بحبها حتى الثمالة ولدرجة المستحيل … ثائر القرن الأفريقي بامتياز قلّ نظيره … فهو أبن أديس أبابا ، ومقديشو والخرطوم وأسمرا ، في نضاله وصراعه مع الباطل … هو ” أبو فراس ” عثمان صالح سبي. لقد كان شهيدنا من المناضلين القلائل ومن القيادات النادرة التي وعت لعمق وتجذر العلاقة السودانية الإرترية ، بل وأن السودان الحر الديمقراطي يمكن أن يكون سنداً وعوناً ومؤازراً للنضال الثوري الإرتري في مواجهته للاستعمار الأثيوبي الكهنوتي والذي كان يقوم عليه الإمبراطور هيلي سيلاسي والذي نشر الخراب والدمار في ربوع بلادنا بعد أن أفرغها من شعبها . وبوصول مجموعة الضباط الأحرار بقيادة جعفر النميري إلى سدة السلطة في الخرطوم ، استبشرت الثورة الإرترية خيرا بتلك الخطوة واعتبرتها سندا لها في المواجهة المحتدمة بين الثورة الإرترية والإمبراطور هيلي سيلاسي ، خاصة وأن تلك الحركة كانت تحمل أفقا ثورياً عريضا ، وشعارات تقدمية براقة ، التقطتها كل القوى الثورية في العالم معتبرة إياها إضافة حقيقية لمعسكر القوى التقدمية في مواجهتها للقوى الإمبريالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والأنظمة الاستعمارية . والشهيد ” سبي ” بكل تأكيد كان أول الملتقطين لتلك الإشارات ، فهو يكتب للسيد فاروق عثمان حمد الله وزير الداخلية ( أعدم في يوليو 1972 ) ، بتاريخ25/9/1969م أي بعد ثلاثة أشهر من قيام ثورة مايو : (( … منذ الخامس والعشرين من مايو وحتى الآن مضى ثلث العام على تحرككم الثوري المدعوم بقوى الجماهير الشعبية العريضة في السودان وقد شكل هذا التحرك طاقة أضافية دافعة لروح المقاومة الشعبية المسلحة في إرتريا . أن ثورتنا ترى في السودان خلفية حضارية وبشرية وجغرافية لنضالها المستمر ضد قوى التوسع الإقطاعي الأثيوبي المدعوم بقوى الرجعية الأفريقية العميلة والولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية العالمية . وقد كانت تجربتنا طيلة الفترة الممتدة منذ نشوء الثورة في سبتمبر عام 1961م والى حين قيام ثورة مايو غارقة في بحور السلبيات والتآمر المكشوف عليها وليس ببعيد عن ذاكرتكم حادث الاستيلاء على أسلحتنا في الخرطوم في شهر مارس عام 1965م )) . الإستراتيجي بامتياز : لقد كان يدرك الشهيد سبي بحسه الإستراتيجي ، أن وصول عناصر تقدمية إلى رأس السلطة في الخرطوم هو بمثابة الدافع والمهماز لنضالنا التحرري ، يمكن أن يدفع بالعملية الثورية خطوات هامة إلى الأمام ، ولكنه أيضا كان يدرك وبحسه الفطري ، أن هذه القوى الجيدة يمكن أن تواجه صعوبات جمة في حال الإعلان عن وقوفها المبدئي إلى جانب الثورة الإرترية ، خاصة وأن السودان يعاني من مشكلته المزمنة في ربوع جنوبه ، ومايمكن أن يواجهه من تدخل أثيوبي وصهيوني إلى جانب حركات التمرد الجنوبية في حينه ، وهنا يكتب الشهيد : (( … ضمن هذه المسألة الصعبة فيما بين مصلحة الثورة في السودان ومصلحتها في إرتريا باعتبارهما يواجهان تحالفا مشتركاً من الأعداء لايسعني إلا أن أقترح تعاونا سريا محكما بين الثورتين الإرترية والسودانية يغطي نفسه بالنسبة لأثيوبيا بمواقف ( شبه عدائية ) من الثورة الإرترية لاتحرج موقف السودان في نفس الوقت مع القوى العربية والعالمية المؤيدة لثورتنا وعلى رأسها ” كوبا ” و ” الصين الشعبية ” و ” سوريا ” ويؤدي تماما إلى الغاية المستهدفة دون ضجيج )) . ويضيف : (( … هناك ملاحظات يتوجب أخذها بعين الاعتبار حين التعاون ” السري ” المرتقب بين ثورتينا أن هناك مخطط تنشط في تركيزه كإستراتيجية متكاملة القوى الصهيونية العالمية وتقدم له التبريرات ” الوكالة التلغرافية اليهودية ” من خلال مؤسساتها في ” بالتيمور ” و ” واشنطن ” و ” تل أبيب ” يقول واضعو هذه الإستراتيجية أن هناك إستراتيجية ( سوفيتية ـ عربية ) لمنطقة جنوب السويس تهدف مستقبلا إلى الاستعاضة عن سد المنافذ البحرية الشمالية بوجه الملاحة الإسرائيلية بسد المنافذ الجنوبية المقابلة للشاطئين الإرتري واليمني . ويمضون في قولهم بأن البعث في سورية ومجلس قيادة الثورة في السودان مرتبطان بهذه الخطة السوفيتية من خلال تحريكهما للنضال الإرتري الذي يؤدي انتصاره إلى جعل البحر الأحمر ” بركة عربية ” )) . المتطلع نحو العرب دوما … ولكن ! منذ انطلاقة الثورة الإرترية بل ومنذ نشوء حركة تحرير إرتريا في نهاية الخمسينات ، كان النظر والتطلع إلى الأمة العربية باعتبار حركة الثورة الإرترية جزء لايتجزأ من النضال العربي الذي يهدف إلى تحرير الأمة من الاستعمار وبناء الدولة العربية الواحدة ذات الآمال والطموح المشترك لكل أقطارها ، والشهيد سبي كان الأعلى صوتا والأصدق تعبيرا عن ذلك الطموح الذي ظل يراوده حتى آخر يوما في حياته . وفي هذا الصدد يمكن أن نتذكر تصريحه الشهير في مطلع الثمانينات والذي يناشد فيه القادة العرب ، والذي نشر في واحدة من الصحف العربية الكبرى وبالخط العريض : ( أعطوني مليون دولار وسوف أحرر إرتريا ) ، ورغم أن هذا التصريح كان يمكن أن يؤخذ في إطاره ولكن عمق الخلافات الإرترية ، وتفرغ قوى بعينها لمحاربة سبي وخطه ونهجه تم استقلاله بأسوأ صورة . ومايؤكد قناعة الشهيد بالدور العربي الذي يمكن أن يكون مساندا ومؤزرا للنضال الإرتري ماذكره الأستاذ أحمد أبو سعده في حوار سابق له مع الشهيد سبي حيث يقول أبو سعده : (( سألني عثمان سبي بألم ، لماذا ، لاتقف الدول العربية معنا ، بوضوح وجدية أكثر ، باستثناء سورية والعراق ؟ من المستحيل أن تتركنا الدول الغربية والشرقية لحالنا ، وهي التي تعطي لنفسها أسماء كثيرة كالديمقراطية والملكية الدستورية والاشتراكية وغيرها . ويتابع الشهيد سبي : السؤال الكبير أين فلسطين ؟ واليوم هناك ، توجه امبريالي لطمس ثقافة إرتريا ، فضلاً عن استعمارها ، فكيف لنا أن نرضى وأن نقبل بهذا الوضع ؟ الواقع الأليم ؟ )) . معاناة الشهيد سبي مع أخوته العرب من زعماء وقادة وعدم جديتهم في مساعدته يمكن أن نستخلصها من أكثر من موقف ، ولكن أوضحها كان من تلك الدويلة التي كانت تلتزم سنويا بمليون دولار للتنظيم ، وعند استلام الشيك هناك العمولة 25% في المائة يقتطعها الشخص الذي يقوم بتسهيل العملية ، والشيك لايصرق إلا بعد ذهابة لأمريكا وبالعودة يتم اقتطاع 10% من قيمته كعمولة ، ثم 15% من الشيك كأجرة للفندق ـ مع العلم أن الشهيد هو ضيف على تلك الدويلة ـ والغرض من مجيئه استلام المساعدة ، وأخيرا يغادر ومعه نصف المبلغ الذي تم رصده ( كمساعدة لثوار إرتريا ) . وهنا يسجل الشهيد في دفتر مذكراته ويكتب بمرارة بتاريخ 26/5/1982 : (( إن إحدى الدويلات ( … ) التي تذيقنا العذ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى