مقالات

السودان وإريتريا .. وشائج تبقى ما بقي الحراز :فايز الشيخ السليك

2-Feb-2009

المركز

حين قال أحد سائقي التاكسي في مدينة أسمرا الأنيقة “نحن بنحب عمر البشير” بعربية مكسرة لم أغضب برغم أننا في تلك الأيام كنا في قمة خصومتنا مع نظام “الانقاذ”، ولا أعتقد أنّ صديقي ياسر عرمان الذي كنت أرافقه في ذات الرحلة الصباحية، في بواكير عام 2000 في شارع “كومشتاتو” أو الحرية”، كان قد مسه شيئاً من الغضب، وهو الناطق الرسمي وقتها باسم “الحركة الشعبية/الجيش الشعبي لتحرير السودان”، والذي كانت بياناته تتحدث عن اكتساح الجيش الشعبي للحاميات، وترسل التهديد والوعيد لكل نظام الانقاذ، لم يغضب كلانا؛ بل إن عرمان رد بطريقته الساخرة، والسريعة” نحن كمان” فضحكنا كلنا،

والسبب أننا نعلم أن ذلك التعبير كان عفوياً، وكان تعبيراً بمناسبة عودة العلاقات الدبلوماسية بين السودان واريتريا بعد قطيعة دامت قرابة الست سنوات، فقد ظن الرجل اننا ضمن طاقم السفارة الجديد، وأننا أتينا لتحسين العلاقات مع حكومة أسياس أفورقي،دون أن يدري ماذا كان صديقي عرمان يفعل، وسائق التاكسي مثله مثل سائر البسطاء في جارة البحر ومنارة الجنوب كان تواقاً لفتح الحدود، وسريان الحركة بين البلدين كسريان نهري القاش وبركة رابطي المياه والجغرافيا بين مرتفعات الهضبة الحبشية العظيمة، وسهول الأراضي السودانية الفسيحة، بلا حواجز سياسية، أو تعقيدات حكومات من أوراق رسمية، وأختام دولة هنا وهناك، وبيروقراطية جوازات، وحذر أجهزة أمنية، فهي علاقة طبيعية تعكسها روابط التاريخ المشترك، والجغرافيا، والثقافات والقبائل. وصديقي الروائي والشاعر والإعلامي الإريتري أحمد عمر شيخ صاحب ديوان “تفاصيل امرأة قادمة من السودان كتب في روايته المتدفقة شاعرية “أحزان المطر”أجل فنحن خليط ومزج تاريخي ولدينا شعوب نيلية وكوشية وسامية أيضاً.. انهار السد وقامت بعض القبائل بالنزوح الى الهضبة المتاخمة القريبة، كانت جنوب الجزيرة العربية حضارةً ملأ صيتها الآفاق ، وكانت تسمى مملكة “سبأ” لتأتي هذه الأقوام ويقال إنها “حيشات” أو “جعزات” اليمنية لستقر في منطقتنا وتقوم بادخال لغتها وحروفها “الجئز” الى قلة من السكان الأصليين ليتم التزاوج وتدخل نظام المدرجات الزراعية وتضحى المنطقة كما هي الآن”.، وفي ذات الرواية، أو أنشودة “أحزان المطر” يقول صديقنا أبو الشيخ لتأكيد التشابه والتداخل بين شعوب منطقة القرن الإفريقي عامة، وبين السودان وإريتريا خاصة ” هل نتشابه حقيقةً”؟.. تساءلت أرى ذات الخمار تستدعي ذاكرةً تماوجت فيها ملامح الحضارت القديمة في المنطقة.. أعظم حضارتين هنا البجا وأكسوم.. وغير شك فإن ما يجمع شعوب البلدين هو كبير وعظيم، ومناسبة حديثي هو احتفال جمعية الصداقة السودانية الاريترية قبل أسابيع بمقر مجلس الصداقة الشعبية، وقد منعتني ظروف كثيرة من الكتابة عن تلك الاحتفائية، وعن ضرورة قيام مثل هذه الجمعيات، فهي جمعيات للتعاون، ولتفعيل الدبلوماسية الشعبية، فالشعوب هي الأبقى، والحكومات جميعها الى زوال مهما طال الزمن، وطول الزمن لن يغير من حقيقة الجغرافيا، وبمناسة الجغرافيا؛ فقد لا يعلم كثيرون ان ميناء مصوع الواقع على ساحل الحبر الاحمر الاريتري اقرب الى الخرطوم من ميناء بورتسودان. وهى مزايا اقتصادية مهمة للغاية اذا ما فكرنا فى اقامة تكامل اقتصادي أو أي شكل من اشكال التعاون والتبادل التجاري ونقل البضائع بين البلدين فى سهولة ويسر، مع الاشارة الى ان الحدود التى يتجاوز امتدادها الاف كيلومتراً خالية من العوائق فى معظم ممراتها الحيوية. ومتانة التاريخ، ودينماكية الثقافة، وهي عوامل التقاء الشعوب، والقواسم المشتركة بينهما، وبمثلما يحب سائق التاكسي السودان ظناً منه أن الرئيس هو السودان، فإن سودانيين كثر يعشقون اريتريا جارة البحر ومنارة الجنوب، وقد شهد على ذلك أنه كلما ضاقت أرض أحد البلدين بأهلها، فتحت لهم البلد الأخرى صدرها، وقلبها، وتسربوا اليها كما العطر اضافةً زكية، ومزجاً جديداً في كيمياء التواصل والالتقاء، التشابه، والسحنات، والملامح هنا وهناك ، و في أسمرا ذاك الهدوء، وتلك الاناقة، وتلك العذوبة ذات اللون الاسمر، وحتى اللغات تشترك في كثير من القواسم حيث أصل التقرينية مثلاً واللغة العربية واحد ، والتقرينية هي لغة سامية مثلها مثل اللغات العربية والعبرية، وفدت الى هناك من جنوب الجزيرة العربية، وهى لغة تشترك مع العربية في الكثير من المفردات والتصريف اللغوي. فمثلاً الاعداد بالترتيب هى ” حادي ، كلتي، سلستي/ اربعتي الى ميتي” اى ” من “واحد، اتنين، ثلاثة اربعة… مائة”. وحتى الحساب نفسه يعني الحساب، اما السماء فهى ” سماي” والماء” ماي”. والبحر ” بحري”. والقلب ” لب”. وقلبي هناك حيث البحر الاحمر، وعروسه مصوع.. وقلبي هناك حيث الفاتنة أسمرا، ونحن من كنا هناك، كنا نحس بدفء المشاعر، وحميمية العلائق، وحبهم للسودان وللسودانيين. لا تشعر البتة بالغربة، ولا يقتحمك الإحساس بالعزلة، وهي مشاعر لا يحسها الا من كان هناك حيث الجبال، والوديان ، والسهل ، والبحر، والالفة، قبائل مشتركة لا تفرق بينها سوى الأوراق الثبوتية التى توضح دولتهم التى ينتمون لها جغرافياً ولا نقول هويتهم. فهناك قبائل التغري بفروعها المختلفة من بني عامر وحباب ومارية وغيرها تتمدد من بورتسودان وكسلا الى اغوردات وكرن ومصوع مرورا بافعبت ونقفة، فيما يتوزع الحدارب ” الهدندوة بتفرعاتهم وبيوتاتهم ما بين همشكوريب وكسلا والقاش وستيت الى داخل اريتريا فى اقليم القاش بركة من قرمايكا وساوا وملوبير الى اغوردات وغيرها من قرى ومدن غرب اريتريا وشمالها الغربي. وهناك قبائل الرشايدة على ساحل البحر الاحمر والحدود المشتركة من قرست الى مستورة. هذا اضافة الى مجموعات صغيرة هنا وهناك مثل الهوسا والبلين. هذا الواقع الثقافي جعل من وجود اسر تحمل الهوى والهوية للبلدين وان فصلت الحدود بينها، لكن لن تفصل الحدود غير شك ما جرى في الشرايين والأوردة. وجميعة صداقة هي تعبير عن حب مشترك، وعن حميمية ما بين الطرفين، ويجب أن تجد الدعم المادي والمعنوي حتى تنساب المسائل انسياب القاش وبركة، وحتى تتنقل البضائع في سهولة ويسر، وليتنا نحلم بعبور الحدود السياسية بالبطاقات لا جوازت السفر، وبتبادل البضائع بأي من عملتي البلدين النقدية، وعلى أقل تقدير من أغوردات الى القضارف، وكسلا وتسني، أو داخل منطقة تجارة حرة تقطع ذلك “الحبل” الذي يفصل بين حدود السودان الشرقية قرب كسلا وحود أريتريا الغربية قرب تسني. وتبقى الوشائج ما بقي الحراز على حد تعبير الشاعر الرقيق حامل هوى وهوية البلدين بابكر عوض الكريم، وهو من مهندسي جمعية الصداقة، وقد ألقى في ليلة الاحتفال ملحمةً شعرية باللغات العربية والتقرينية والتقري والبلين، واستخدم عبارات من الموروث الشعبي المشترك، وليت الجمعية تتفجر قوافل صحية وطبية وثقافية هنا وهناك، لأن الثقافة هي ما يبقى في الذاكرة عند نسيان كل شيء. نقلاً عن صحيفة أجراس الحرية السودانية -2فبراير2009م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى