مقالات

الصراع الاريتري ـ الاريتري بين ثوابت الجغرافيا.. ومتغيرات التأريخ (1-2) : بقلم/ عمر جابر عمر

17-Aug-2005

المركز

ملبورن ـ أستراليا
الحلقة الأوليأسباب وخلفيات الصراعاريتريا مثلها في ذلك مثل العديد من الدول الأفريقية كانت مجموعة من الأمارت الصغيرة والادارات القبلية التي تشرف علي مناطق بعينها. كانت العلاقات بين سكان المنطقة تتسم بالتلقائية وتحكمها مصالح الأطراف ورغبتها المشتركة في العيش بسلام واستقرار.

كانت علاقات الرعي والتجارة والزراعة هي التي تحدد علاقة كل أقليم او قبيلة بالآخرين. وكان العامل الخارجي ـ الغزو ـ هو الذي يحدد شكل ومحتوي الحياة الاجتماعية، واريتريا بحدودها الجغرافية الحالية كانت نتاجاً لصراع القوي الدولية، فالحدود الغربية لاريتريا توقفت عند “أديبرا” بسبب موازين القوي بين إيطاليا وبريطانيا. والحدود مع إثيوبيا تشكلت بسبب الصراع الإيطالي ـ الإثيوبي. وهكذا خرجت مستعمرة “اريتريا” الإيطالية الي الوجود عام 1890. وجد سكان البلاد انفسهم تحت سلطة مركزية واحدة لأول مرة في تأريخهم. جاء المستعمر (بكسر الميم) بقوانينه ونظمه وأسلوب حياته ولكنه أضاف قوانين خاصة سنها لتطويع سكان البلاد وإخضاعهم لسلطته المطلقة.عاش الاريتريون في “سجن” كبير منذ عام 1890 وحتي نهاية الحرب العالية الثانية 1945، صحيح كانت هناك مقاومة متفرقة هنا وهناك بسبب الأرض او التجنيد أو القوانين التعسفية التي كانت تعامل الاريتريين بإعتبارهم أدني درجة من الإيطاليين، وكانت هناك قوانين عنصرية تحرم الاريتريين من إرتياد الأماكن التي يوجد فيها إيطاليون. كان جميع الاريتريين متساوون في “الظلم” لافرق بين مسلم أو مسيحي ولا بين أبناء المنخفضات والمرتفعات. ولكن تلك التجربة رغم أنها “وحدت” بين الاريتريين في المعاناة والاحساس بالظلم إلا أنها لم توحد بينهم في تكوين روح وطنية جامعة شاملة تقود خطواتهم في إتجاه واحد وتجعلهم يطالبون بالخلاص من المستعمر تحت قيادة واحدة وبهدف محدد، وبعد هزيمة إيطاليا عام 1945 دخلت بريطانيا الي البلاد ممثلة للحلفاء ولكنها لم تكن ترغب في البقاء في اريتريا بسبب التكلفة المادية الكبيرة. ولكنها ـ أي بريطانيا ـ طرحت مشاريع سياسية بحكم وجودها في السودان كانت تهدف منها الي تعزيز موقعها في السودان.طرحت مشروع التقسيم ـ أي تقسيم اريتريا بين السودان وإثيوبيا، كان القسم الأول يشمل مناطق البحر الأحمر والساحل وكرن والمنطقة الغربية من اريتريا ( وغالبية السكان في تلك المناطق من المسلمين ) والمقترح أن ينضم ذلك الجزء الي السودان، والقسم الثاني يضم المرتفعات الاريترية ( الغالبية من المسيحيين ) وينضم الي إثيوبيا! وأنقسم الاريتريون ـ تدخلت إثيوبيا والتي كانت تتطلع الي منفذ علي البحر الأحمر وأستخدمت الكنيسة الأرثوذكسية لإقناع المسيحيين بالانضمام الي إثيوبيا ” الأم “! وتم تكوين حزب ” الوحدة ـ أندنت ” والذي ضم غالبية المسيحيين وأقلية مسلمة لتحقيق ذلك الهدف، وكانت هناك أقلية مسيحية علي خلاف قديم مع إثيوبيا حاولت رفع شعار “اريتريا للاريتريين” ولكنهم حوربوا وتمت محاصرتهم فذهبوا الي الرابطة الإسلامية لتكوين “الكتلة الاستقلالية” كان علي رأس هؤلاء : رأس تسما ـ ولدآب ولدماريام وآخرين.المسلمون الاريتريون رفضوا منذ البداية فكرة الانضمام الي إثيوبيا ولكنهم كانوا في حيرة في بداية الأمر خاصةً وهم يشاهدون الدور الإثيوبي. وكان ان ذهب وفد يمثل القيادات السياسية والاجتماعية من مختلف الأماكن في اريتريا الي السودان عام 1948، قابل الوفد الاريتري في الخرطوم السيد/ علي الميرغني زعيم طائفة الختمية ـ وكانت نصيحته لهم : تمسكوا بالإستقلال ولا تنقسموا ولا تنضموا الي إثيوبيا. ثم قابل الوفد السيد/ عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار وكانت نصيحته مماثلة ومتطابقة مع نصيحة زعيم الختمية.رجع الوفد الاريتري وأشتد النضال من أجل الاستقلال، أرسل أنصار الاستقلال وفوداً الي الأمم المتحدة وكتبوا المذكرات وعقدوا الاجتماعات التعبوية وأصدروا الصحف المؤيدة للإستقلال، ولكن ذلك المشروع الوطني (الإستقلال) فشل بسبب التدخل الإثيوبي السافر ودعم القوي العالمية (أمريكا) لإثيوبيا وهكذا صدر القرار الفيدرالي الذي قبلت به إثيوبيا علي مضض ورأي فيه أنصار الاستقلال الحد الأدني الذي أمكن تحقيقه في ظل الظروف الدولية والأقليمية السائدة آنذاك، كانت هناك علي الأقل استقلالية داخلية لاريتريا ـ علم وحكومة ـ والأهم كان هناك إقرار باللغة العربية كلغة رسمية في البلاد. ولكن إثيوبيا عملت منذ اليوم الأول علي إلغاء ذلك القرار، وفي عام 1962 أعلنت ضم اريتريا نهائياً الي إثيوبيا.تلك كانت المبادرة الأولي للمطالبة بالاستقلال قام بها مسلمون.المبادرة الثانية كانت عام 1958 حيث ظهرت “حركة تحرير اريتريا” وجميع قادتها من المسلمين ـ بدأت في مدينة “بورتسودان” وأنتشرت من هناك الي داخل اريتريا، كان الشعار الذي رفعته الحركة : إستقلال اريتريا عن طريق القيام بانقلاب عسكري تقوم به الشرطة الاريترية ويدعمه الشعب من خلال إنتفاضة شعبية. وفشل المشروع لأسباب ليس هنا مكانها وربما يكون لعدم واقعيته في تلك المرحلة. ولكن المبادرة الثالثة ـ القفزة الكبري ـ جاءت عام 1961 عندما أعلنت “جبهة التحرير الاريترية” الكفاح المسلح.كانت “جبهة التحرير” مشروعاً وطنياً متكاملاً ـ وهي وإن كانت في تركيبتها القيادية والقاعدية بدأت “إسلامية” إلا أنها في برنامجها وخطابها السياسي كانت وطنية. وبالفعل بدأ الطرف الآخر ـ المسيحي ـ يلتحق بالثورة وأصبحت جبهة التحرير الوسيلة لتحقيق الحلم الاريتري الكبير ـ الاستقلال، ولكن وبينما كانت كل الدلائل تشير الي أن الاريتريين أخيراً أمتلكوا الأداة الصحيحة والرؤية المستقبلية ـ بدأت رموز المرحلة الفيدرالية تستيقظ من غفوتها وتحاول اللحاق بالأمور لإيقافها وإذا أمكن تغييرها.كان “أسياس أفورقي” قد أنفصل عن جبهة التحرير وانشأ تنظيماً خاصاً به وبمجموعته من المسيحيين من المرتفعات الاريترية. كان ذلك عام 1970. ولكن تطور المواجهة مع إثيوبيا والحصار الذي فرضه علي نفسه جعله في موقف لايمكن الخروج منه، فكان عليه اما أن يواجه عسكرياً ـ وذلك مستحيل ـ واما أن يسلم الي اثيوبيا وتلك نهايته. وهنا أتصل به رموز “الأندنت” وقالوا له بالحرف: ان الثورة ستنتصر واثيوبيا ستنهزم، ولكن إنتصار الثورة بقيادتها تلك وبرامجها المعلنة سيعني إنتصار المسلمين!! إذا كنت تريد رجالاً أرسلناهم لك وإن كنت تريد سلاحاً أعطيناك إياه ولكن لاتسلم. كان من هؤلاء الناصحين ” قشي ديمطروس ” ـ ” حرقوت أباي ” ـ ” أسفها ولدميكائيل ” وآخرون، وبالفعل نفذوا وعدهم وتدفق الرجال والسلاح علي “أسياس”! ومن يومها بدأ الصراع الاريتري ـ الاريتري يأخذ طابعاً سياسياً وعسكرياً في الظاهر ولكنه كان يستند في جوهره الي رؤية ثقافية وتركيبة إجتماعية ودينية جعلت من الإصطفاف السياسي فيما بعد مسألة تلقائية.كان أول ما مارسته الجبهة الشعبية (1976) هو إلغاء اللغة العربية في التدريب العسكري وأنشطة التنظيم. في حين أن جبهة التحرير كانت قد جعلت من اللغتين العربية والتقرنية لغتين رسميتين حتي قبل أن يلتحق أبناء تلك الثقافة بالجبهة (1961).تلك كانت أسباب وخلفيات الصراع ـ المسلمون يعتقدون بأنهم أصحاب المبادرات الأساسية لإستقلال اريتريا وبمنظور وطني يشمل الجميع حقاً وواجباً. ولكن الطرف الآخر (الجبهة الشعبية) ما هي إلا تعبير عن إتجاه واحد وتوجه يعمل علي إقصاء الآخر وتهميشه وفرض هيمنة ثقافة واحدة ـ كيف؟؟.ذلك ما سنأتي علي تفصيله في الحلقة القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى