مقالات

مفهوم المجتمع المدني : تغريد كشك*

15-Jul-2011

المركز

لمفهوم المجتمع المدني تأريخ طويل نضج في الغرب على يد الفيلسوف العظيم أرسطو طاليس الذي دعا بمفهومه “الناقص” إلى تكوين مجتمع سياسي(البرلمان) تسود فيه حرية التعبير عن الرأي و يقوم بتشريع القوانين لحماية العدالة والمساواة، إلاّ أن المشاركة كانت تقتصر في هذا المجتمع السياسي على مجموعة من النخب في المجتمع دون إعطاء المرأة و العمال والعبيد والغرباء حق المشاركة و حق المواطنة

وامتدادا لنفس الفكرة التي تدعو إلى ضرورة المجتمع السياسي ساهم “جون لوك” في القرن السابع عشر” باكتشافه قدرة الإنسان الكامنة في الدفاع عن نفسه و حريته وعن ممتلكاته و القدرة على تدمير الآخرين، لذلك اقترح لوك ضرورة قيام مجتمع سياسي ذو سلطة تنفيذية و صلاحيات لمعالجة الخلافات وتنظيم حالة الفوضى وإيجاد حلول للنزاعات التي يمكن أن تنشأ. أراد لوك بسعيه هذا أن يستبدل الصيغة الملكية بصيغة أكثر ديمقراطية و هي مجتمع سياسي ذو قوانين و شريعة. ظلت مفاهيم المجتمع المدني عائمة إلى أن جاء شيخ الفلاسفة هيجل في القرن التاسع عشر حيث ادرج المجتمع المدني ما بين مؤسسات الدولة (ذات السلطة) و المجتمع التجاري ـ الاقتصادي (القائم على اساس الربح) سعيا منه لرفع قدرة المجتمع على التنظيم و التوازن. إن مناقشة هيجل للمجتمع المدني ترجع إلى آثار دراسته لفكر آدم سميث و نظريته “دعه يعمل، دعه يمر، وهي اساس الفكر الاقتصادي عند الطبيعيين او الفزيوقراطيين الذين يذهبون إلى أن رخاء الدولة يعتمد على تركها لحرية التجارة، و حرية الافراد لكي يحققوا بقدر المستطاع أهدافهم الأنانية الخاصة. وعلى نفس خطي هيجل سعى المفكر الاشتراكي انطونيوغرامشي (1891-1937) إلى تطوير هذا المفهوم من خلال زج المثقف العضوي في عملية تشكيل الرأي ورفع المستوى الثقافي، في ذلك كانت دعوته ملحة إلى ضرورة تكوين منظمات اجتماعية و مهنية نقابية و تعددية حزبية لهدف اجتماعي صريح يضع البناء الفوقي في حالة غير متنافرة مع البناء التحتي و ايجاد طريقة للتفاعل الحيوي المستمر بينهما. كل ذلك لا يكتب له النجاح إلا بقيام و توسع الديمقراطية حيث ان الديمقراطية والمجتمع المدني وجهان لعملية اجتماعية واحدة. وقد أكد ذلك المفكر الايطالي روبرت بوتنام عندما قال “كلما تواجدت مؤسسات المجتمع المدني وأدت دورها كلما كانت الديمقراطية اقوى واكثر فعالية”.والعكس هو صحيح! يقول غرامشي في احد النصوص الهامة من دفاتر السجن: “ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة، هو تثبيت مستويين فوقيين اساسيين، الاول المجتمع السياسي او الدولة، والثاني يمكن أن يدعى المجتمع المدني، الذي هو مجموعة من التنظيمات. يحتوي المجتمع المدني عند غرامشي على العلاقات الثقافية ـ الايديولوجية ، و يضم النشاط الروحي ـ العقلي. واذا كان صحيحا ما قاله ماركس من أن “المجتمع المدني هو البؤرة المركزية و مسرح التاريخ ” فان الجتمع المدني هو اللحظة الايجابية و الفعالة في التطور التاريخي، و ليس الدولة كما ورد عند هيجل. غير أن اللحظة الايجابية و الفعالة، اي أن المجتمع المدني يمثل الظاهرة التحتية (القاعدة) عند ماركس ، بينما هي عند غرامشي لحظة فوق بنيوية (بناء فوقي). و تمكن غرامشي، بعد انشغاله المطول بقضايا الثقافة و تعمقه بمفهوم المثقفين، أن يقوم بالتفرقة الشهيرة بين المثقف التقليدي و المثقف العضوي، ودور الاخير في عملية الهيمنة. في النص المقتطف من “الماضي و الحاضر” يتكلم غرامشي عن المجتمع المدني كما يفهمه هيجل، و سرعان ما يوضح انه يعني به ” الهيمنة الثقافية والسياسية، حيث تمارس الطبقة الاجتماعية هيمنتها على كامل المجتمع كاحتواء اخلاقي للدولة، وبهذا اعتبر غرامشي المجتمع المدني فضاء للتنافس الايديولوجي. فاذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة الدولة، فان المجتمع المدني هو فضاء للهيمنة الثقافية الايديولوجية، ووظيفة الهيمنة هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدّعي انها خاصة مثل النقابات و المدارس ودور العبادة و الهيئات الثقافية المختلفة، فالمجتمع المدني لدى (غرامشي) هو مجموعة من البنى الفوقية مثل: النقابات والاحزاب والصحافة و المدارس والادب والتنظيمات الحرة الاخرى. يقول المفكر الالماني المعاصر هابرماس: أن وظائف المجتمع المدني تعني لدى غرامشي الرأي العام غير الرسمي ( اي الذي لا يخضع لسلطة الدولة). و بهذه الطريقة بقي غرامشي متأثرا بماركس الذي تحدث عن هذا الرأي العام عندما وصفه قائلا:(أن النظام البرلماني يعيش من النقاش ، فكيف بمنع النقاش؟ إن كل مصلحة، وكل مؤسسة مجتمعية تتحول مع الزمن إلى افكار، ويجب أن تعالج بهذه الصفة، فكيف يسمح لمصلحة ما، او مؤسسة ما أن تعتبر نفسها فوق التفكير، و تفرض نفسها عقيدة غير قابلة للنقاش. تعريف المجتمع المدني: يمكن تعريف المجتمع المدني على أنه جملة المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال نسبي عن سلطة الدولة وعن ارباح الشركات في القطاع الخاص، اي أن المجتمع المدني عبارة عن مؤسسات مدنية لا تمارس السلطة و لا تستهدف تحقيق أرباح اقتصادية ، حيث يساهم في صياغة القرارات خارج المؤسسات السياسية ولها غايات نقابية كالدفاع عن مصالحها الاقتصادية والارتفاع بمستوى المهنة و التعبير عن مصالح اعضائها، و منها أغراض ثقافية كما في اتحادات الادباء و المثقفين والجمعيات الثقافية والاندية الاجتماعية التي تهدف إلى نشر الوعي وفقا لما هو مرسوم ضمن برنامج الجمعية. اذن المجتمع المدني هو مجموعة التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة لتحقيق مصالح افرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والادارة السلمية للتنوع والخلاف. للمجتمع المدني نتاجات اهمها: الثقة و التسامح، الحوار السلمي، الثقافة، والمرونة. و يعتبر تبني هذه القيم واتباع السلوك الذي يتوافق معها هو اضافة لرأس المال الاجتماعي ، وهو ما يوفر في النهاية الفعالية للمجتمع المدني. حيث أن هذه القيم تمثل جوهر الديمقراطية، اذ يستحيل بناء مجتمع مدني دون توافر صيغة سلمية لادارة الاختلاف والتنافس والصراع طبقا لقواعد متفق عليها بين الاطراف، ويستحيل بناء مجتمع مدني دون الاعتراف بالحقوق الاساسية للانسان خاصة حرية الاعتقاد والرأي والتعبير والتجمع والتنظيم، مع الاعتراف واحترام القيم السابقة وبذل كل الجهود من اجل تطوير التجربة الديمقراطية والحفاظ على ديمومتها، حيث أن بناء المجتمع الديمقراطي يتطلب عملا دؤوبا و وقتا طويلا لانشاء كل ما هو ضروري من المؤسسات التي تعتبر حجر الزاوية في بناء التجربة الديمقراطية. عناصرتكوين المجتمع المدني: من الممكن أن نجد تعاريف عديدة للمجتمع المدني إلاّ انها لا تخرج عن توافر اربعة عناصر اساسية: يمثل العنصر الاول بفكرة “الطوعية” او بكلمة اخرى المشاركة الطوعية التي هي بالاساس الفعل الاداري الحر او الطوعي، وبهذه الطريقة تتميز تكوينات وبنى المجتمع المدني عن باقي التكوينات الاجتماعية المفروضة او المتوارثة تحت اي اعتبار. العنصر الثاني هو أن المجتمع المدني منظم: وهو بهذا يختلف عن المجتمع التقليدي العام بمفهومه الكلاسيكي، حيث يشير هذا الركن إلى فكرة”المؤسسية” التي تطال مجمل الحياة الحضارية تقريبا، والتي تشمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية و الثقافية. العنصر الثالث يتعلق “بالغاية” و “الدور” الذي تقوم به هذه التنظيمات، والاهمية الكبرى لاستقلالها عن السلطة وهيمنة الدولة من حيث هي تنظيمات اجتماعية تعمل في سياق وروابط تشير إلى علاقات التضامن والتماسك او الصراع والتنافس الاجتماعي، حيث أن المجتمع المدني هو مجتمع اخلاقي وسلوكي ينطوي على قبول الاختلاف والتنوع بين الذات والآخرين، وعلى حق الآخرين فيه أن يكونوا منظمات مدنية تحقق وتحمي وتدافع عن المصالح المادية والمعنوية، والالتزام بإدارة الخلاف داخل وبين مؤسسات المجتمع المدني، وبينها وبين الدولة بالوسائل السلمية، وفي ضوء قيم الاحترام والتسامح والتعاون والتنافس والصراع السلمي. آخر هذه العناصر يكمن في ضرورة النظر إلى مفهوم المجتمع المدني باعتباره جزءا من منظومة مفاهمية أوسع تشتمل على مفاهيم مثل: الفردية، المواطنة، حقوق الانسان، المشاركة السياسية، والشرعية الدستورية…الخ. المجتمع المدني والدولة: هناك تصورات عديدة للدولة إلاّ أن الفكر السياسي الحديث الممتد من هوبز إلى هيجل له ثلاثة تصورات رئيسية للدولة: 1. الدولة السياسية بوصفها نفيا راديكاليا تلغي السلطة الطبيعية وتتغلب عليها، وهي بهذا المعنى مرحلة تجديد بمقارنتها مع مرحلة التطور البشري التي تسبق الدولة( هوبز وروسو). 2. الدولة بوصفها حفظا وتنظيما للمجتمع الطبيعي، وهي وفقا لهذا التحليل ليست بديلا عن المرحلة التي سبقتها فقط، بل سيرورة تقوم بتنشيطها واكمالها( لوك وكانط). 3. واخيرا الدولة باعتبارها حفظا وتعاليا لمجتمع ما قبل الدولة(هيجل)، وذلك بمعنى أن الدولة برهة جديدة لاتكمل البرهة التي سبقتها، ولا تكون مؤسسة على النفي المطلق. أي انه بينما تستبعد دولة هوبز وروسو إلى حد كبير دولة الطبيعة، اي السلطة المنظمة للمجتمع في مرحلته الطبيعية، فإن دولة هيجل تحتوي على المجتمع المدني، وبهذا تكون مختلفة عن دولة “لوك” ايضا التي تحتوي المجتمع المدني لا لتتعالى به، وانما لتسوغ وجوده واهدافه. وبالمقارنة مع العناصر الثلاثة المذكورة وعبر نقدها يمكن اشتقاق العناصر الاساسية في مذهب “ماركس” عند الدولة وهي: 1. الدولة بوصفها جهازا قمعيا (عنف مركز ومنظم في المجتمع) . 2. الدولة بوصفها وسيلة للطبقة المسيطرة وفقا للقول الشائع:(أن الدولة هي أداة سيطرة طبقة على طبقة أخرى) . 3. الدولة بوصفها ظاهرة فرعية او ثانوية بالعلاقة مع المجتمع المدني، ووفقا لهذه الظاهرة، لا تعتبر الدولة هي التي تكيف وتنظم المجتمع المدني، بل المجتمع المدني هو الذي يكيف الدولة و ينظمها، وهذا ما دعاه غرامشي “الدولة الموسعة” اي المنظومة السياسية، بشقيها المدني و السياسي حيث يمكن أن يكون الجتمع المدني مساندا للدولة او معارضا لها، في الحالة الاولى يشكل الجتمع المدني مصدر الشرعية عبر مشاركة منظماته وفئاته الاجتماعية المختلفة في صنع القرار، اما في الحالة الثانية التي تتصدى فيها الدولة بجهازها ومؤسساتها القمعية لكل اشكال التغير، فتبدو الدولة وكأن المجتمع وجد من اجلها لا العكس، لهذا فان مدى تطور المجتمع المدني يرتبط بمدى تطور سياسات وتشريعات الدولة في مواجهة المجتمع المدني، ومدى توافر مرجعية قانونية مقبولة ودور الدولة في تسهيل او اعاقة الثقافة المدنية . أرى هنا أنه من الضروري أن اشير إلى نقطة مهمة جدا ألا وهي أن المؤسسية تعتبر الحجر الاساسي في بناء الجتمع المدني وقد يكون من المهم ايضا تبيان الفارق بين العمل المدني كمؤسسة، و العمل المدني كتنظيم. فالمؤسسة هي مجموعة قوانين راسخة يتم وضعها لمقابلة المصالح الجماعية، وهي تنظيمات تتمتع بشرعية لاشباع حاجات الناس و الدفاع عن حقوقهم عبر الزمن، ومن هنا فان تطويرها يأتي في اطار التغيرات في البنية الاجتماعية. اما تعريف المنظمات فهي وحدات اجتماعية ذات غرض ودور محدد داخل اطار مؤسسي اوسع، وان تطويرها لا يؤدي بالضرورة إلى التغييرات في البنية الاجتماعية. فالمجتمع المدني يلعب دور فعالا ، ويسهم في التأثير على صنع التغيير الاجتماعي والسياسي وفي الاتجاه الذي يؤدي إلى تصعيد مستوى الوعي وغرس روح العمل الجماعي والتزويد بمهارات السياسية و العمل على تطوير القدرات وتبادل الخبرات في مجال الدفاع عن الحق العام و المنفعة الجماعية . إن تطوير مؤسسات المجتمع المدني سند اساسي لاحداث التغيير والتأثير على مستويات الوعي وقدرته على العمل الجماعي، وهو ايضا سند اساسي لديمومة النظام الديمقراطي و تطويره حيث أن الديمقراطية ليست هدفا سياسيا يمكن تحقيقه والوصول اليه لمرة واحدة فقط وانما هي عملية حيوية يجب تنميتها والحفاظ عليها والاستمرار في تطويرها.* كاتبة وناشطة سياسية فلسطينية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى