مقالات

كلمة الاستاذ / تسفاي ولدماكئيل ( دقيقة ) في تأبين رفيق نضاله القيادي الشهيد/ أحمد محمد ناصر

16-Apr-2014

عدوليس ــ نقلا عن موقع نحارنت

ألقيت في التأبين الذي أقامه الارتريون للشهيد بأوكلاند بالولايات المتحدة الامريكية في السادس من ابريل 2014م – كلنا نعلم جيداً كيف تلقى الارتريون في شتى أصقاع العالم النبأ البالغ الحزن واللوعة بوفاة أحد آباء النضال الوطني التحرري، ألا وهو المناضل المخضرم الشهيد/ أحمد محمد ناصر، إن التعبير ليعجز عن وصف أحزاننا وآلامنا إذ يخترم الموت من بيننا رفيق نضالٍ لنا ناضل وقاتل وجادل وصال وجال من أجل قضايا شعبه وبلاده،

يخترمه الموت قبل أن تكتحل عيناه برؤية أحلامه وآماله التحررية متحققةً علي أرض الواقع، قبل أن تطأه قدماه أرضه التي تحررت من دنس الاحتلال الأجنبي، قبل أن يحتضنه دفئ ديار الآباء والأجداد.
أقف أمامكم هنا بصفتي التنظيمية والسياسية ممثلاً لحزب الشعب الديمقراطي الارتري قيادةً وقواعد لأنقل لأسرة الشهيد الصغيرة وأسرته الوطنية متمثلةً في جبهة الانقاذ الوطني الارترية مشاركة حزبنا إياكم الأحزان في وفاة رفيقنا جميعاً الراحل المقيم/ أحمد محمد ناصر، كما أقف أمامكم بصفتي الشخصية كرفيق نضال للشهيد أحمد، حيث أمضيت معه تجربة نضالية ثرة وإيجابية.
تعود معرفتي بالشهيد الي شهر أغسطس 1973م ونحن وقتها قد أكملنا التدريب العسكري والتأهيل السياسي، والشهيد بعد أن تخرج ضابطاً عسكرياً من العراق كان ضمن الدائرة العسكرية بالقيادة المنتخبة من المؤتمر الوطني الأول لجبهة التحرير الارترية، ويومها كان هو شخصياً قد أشرف علي توزيعنا علي مواقعنا النضالية بصفة رسمية. إنه لم يكن ذلك القيادي الشاب لطيف المعشر بادي الطموح سامي الأهداف فحسب، بل وجدنا فيه فضلاً عن ذلك، قائداً مثقفاً يتحدث ثلاث لغات، العربية، التجرينية والانجليزية بطلاقة. وعندما التقينا في فيافي وصحاري ميادين القتال كان بالنسبة لنا كملتحقين جدد حدثاء السن والتجربة النضالية القدوة والأمل المشرق وخير صديق نهلنا منه المعاني المجسـَّـــدة للصبر وتحمل الصعاب وكل ما تقتضيه حياة المشقة والنضال.
وفي العام 1975م عندما اختير شهيدنا رئيساً لجبهة التحرير الارترية واخترت أنا معه سكرتيراً للجنة التنفيذية أمضينا معاً فترة نضالية مديدة وحافلة بأروع التجارب النضالية والروح الرفاقية. وهنا لا الوقت ولا التعبير يسعني أو يسمح لي أن أقص عليكم الكثير، لكن أرجو أن يتسع وقتكم لتناول غيض من فيض الذكريات التي عشتها مع الفقيد والتي رغم تقادم الزمان أبت أن تفارق مخيلتي.
ليس سراً أن شهيدنا أحمد كان شخصية هادئة صبورة دمثة الأخلاق تحب الأسلوب الجماعي والتشاوري في فن القيادة، حيث لم يعرف عنه أية طباع أو ميول أو ممارسات دكتاتورية، ولا أبالغ إن قلت إنه مرَّ في حياته كإنسان بكل ما يواجه المخلوق في هذه الدنيا، لقد ذاق أحلى ما في الدنيا كما ذاق الأمرَّ فيها، فقد التقى بزعماء عديدين مثل زعيمي الاتحاد السوفيتي والمانيا الشرقية وبعض زعماء أوربا الغربية، فضلاً عن الرئيس الامريكي الأسبق/ جيمي كارتر، كما التقى برؤساء وملوك العرب، وناقش مع هؤلاء جميعاً قضايا وطنه وأمته، كذلك جلس علي الأرض يحادث ويشاور العمال والفلاحين والمقاتلين الذين يحملون أرواحهم في أكـُــفــِّـــهم، ومن أجل قضيته التحررية كم طار في الأجواء وعبر البحار والمحيطات والصحاري، كما حدث أن صار سجيناً في زنزانة انفرادية مغلقة ومحروسة بالعساكر لا يتمتع فيها بحرية الحركة، باختصار مرَّ شهيدنا بكل حلوٍ ومرٍّ في النضال، عانى الجوع والعرى وانعدام المأوى من المطر والحر والعواصف. لقد ذاق طعم الهم والقلق، كما خبر لذة الهدوء والراحة، قضى الليالي والأيام في أفخم وأضخم الفنادق، كما نام علي الأرض ملتحفاً السماء متوسداً الحجر، لقد تحمل كل المرارات وصعد وهبط كل الطرق الوعرة والسالكة من أجل ارتريا حرة.
بعد أن وضعت الحرب الأهلية بين الجبهة والشعبية وجبهة التحرير الارترية أوارها، ذهب شهيدنا في 1986م الي جبال الساحل رئيساً للجنة الحوار مع الجبهة الشعبية، وفي تلك اللقاءات يحدثنا السيد/ إسياس أفورقي رئيس الجبهة الشعبية حينها عن معاناتهم من قلة الأسلحة المضادة للطائرات ويطلب مساعدتنا بكل الممكن، وكنا نحن وقتذاك قد استردينا من الحكومة السودانية أسلحتنا التي صادرتها منا بعد الحرب الأهلية، هذا ولما كنا في ذلك الوقت قد ضعفت قوانا وتضعضع أداؤنا العسكري لم نر لأنفسنا حاجة ماسة لاستخدام الأسلحة الثقيلة لذلك أقررنا مبدئياً إمكانية مساعدة الشعبية بمدها بما نملك من تلك الأسلحة، هذا لا يعني أنه لم يرد في حسباننا تساؤلات ومخاوف من أن لا تستخدم الشعبية أسلحتنا هذه في الهجوم علينا مجدداً. لكننا في النهاية غلبنا الرأي الوطني القائل: بأننا بدلاً من أن نكون أسرى هواجس الغد وما يأتي به المستقبل المجهول، يفضل أن نواكب واقع اليوم فنضع تلك الأسلحة في كل موقع يمكن أن تخدم فيه قضية استقلال بلادنا وتحريرها من العدو المستعمر بدلاً من أن تبلى هكذا بلا نفعٍ أو استخدام مفيد، لذا قررنا منحها للجيش الشعبي، وبالتالي منحت جميع صواريخنا المضادة للطائرات عيار 36 ملمتر للجيش الشعبي. الشهيد/ أحمد ترأس هذا التيار المطالب باتخاذ هذا القرار وكان أكثر المتحمسين للدفاع عنه.
بعد تحرير ارتريا وحتى لا تسود الفوضى والفراغ الدستوري سارعنا الي وضع سلاحنا الذي حملناه من أجل قضية التحرير، كانت قضيتنا يومها أن تحل محل السلطة الاستعمارية الاثيوبية سلطة وطنية ارترية، كما كان من الطبيعي أن نقر بأن تتولى الجبهة الشعبية التي دخلت العاصمة أسمرا تلك السلطة البديلة لسلطة الأجنبي المحتل ولفترة انتقالية علي الأقل، وبعث شهيدنا باسم تنظيم جبهة التحرير الارترية/ المجلس الثوري خطاب تهنئة للشعب والحكومة المؤقتة يحمل توقيع الرئيس. ليس ذلك فحسب، بل كوَّن تنظيمنا لجنته للحوار والمصالحة الوطنية برئاسة رئيسه ناصر وأجرى اتصالاته لتهيئة الأجواء لممارسة مهامه الوطنية التي تتطلبها المرحلة الانتقالية، وبضمير وطني مخلص وإحساس غامر بفرحة التحرير قطع التنظيم من حر ماله تذاكر وفده للعاصمة أسمرا، وبينما كان الوفد متواجداً بمطار الخرطوم للمغادرة الي هناك، إذا بأوامر عاجلة تأتي من أسمرا تمنع الوفد من المغادرة الي اسمرا، وبالفعل عاد الوفد أدراجه، ومنذ ذلك الحين والبلاد تعود الي الوراء وتسير خطوات حثيثة نحو الدكتاتورية وتجذُّر الاستبداد.
عندما أصبح السودان مركز العمل القيادي لتنظيم المجلس الثوري قامت سلطات نميري بالسودان بإيعاز من السعودية باعتقال جميع كادر التنظيم وعندما اعتصمت نساء المعتقلين أمام السجون يطالبن بالإفراج عنهم ردّت السلطات بأنه إذا لم يتم وقف ذلك الاعتصام فسيتم اعتقال قيادة التنظيم بكاملها، الشهيد أحمد قرر مع القيادة إذ ذاك تكوين قيادة ظل تعمل في الخفاء وتدير التنظيم في حال اعتقال القيادة. وبتلك القيادة الحكيمة لناصر تحدينا تلك الظروف الصعبة والأزمات السياسية والأمنية الخانقة، وبالفعل جاء الفرج بعد قليل فأسقطت انتفاضة ابريل السودانية نظام نميري الدكتاتوري وتنفس تنظيمنا الصعداء لمدة لا بأس بها. فكان نصر الشعب السوداني نصراً لتنظيمنا أيضاً.
انتصار الثورة الايرانية بقيادة آية الله الخميني وسقوط الشاه/ رضا بهلوي أيضاً كان نصراً إضافياً لنضال شعبنا، فقد أيدت الثورة قضيتنا التحررية، وفور ذلك ترأس أحمد وفد تنظيمنا الي هناك لخلق نصر وموقع دبلوماسي جديد لثورتنا، لقد أحسن الايرانيون استقبال وفدنا وكرَّموا الشعب الارتري في شخص أحمد بمنحه بواسطة الخوميني مسدساً فخرياً مطلياً بالذهب كهدية تذكارية تعبر عن تضامن الثورة الايرانية مع ثورة الشعب الارتري التحررية.
كما تخلل حياة الشهيد الكثير من المسرات تخللتها أيضاً مرارات، وعلي رأس ذلك تجربة الانقسام والاختلاف، فقد كنا والشهيد أحمد ضمن تنظيم واحد ورؤية واحدة واتفقنا واختلفنا حول هدف واحد أيضاً، وفي كل ذلك نجحنا في تحقيق الكثير من الأهداف، وإذا سئلتُ شخصياً، أين كان أحمد من ذلك كله، أقول فوراً: إنه كان في جانبي يدافع عما أدافع عنه، كذلك باعتبارنا بشراً نخطئ ونصيب، مرت علينا أطوار مريرة من الخلاف في الرأي، فحيث ما كان هناك حرية في الرأي كان هناك بنفس القدر خلاف في الرأي. ففي لحظات الضعف الخارجة عن السيطرة وعند احتدام الخلافات وتمايز المواقف وسخونة المواجهات كثيراً ما احتدَّ بيننا النقاش والجدال والمشادّات الكلامية الحادة. نعم اختلفنا خلافاً لا يخفى علي أحد، لكننا لم نفسد بخلافنا قضيةً للوُدِّ بيننا، وكأي قوة متحدة يحدث بينها الانفصال فتتقاتل وحداتها علي تقاسم السلاح والممتلكات، فتشتعل المواقف والكل يعمر سلاحه ويصوبه نحو صدر الآخر، حدث بيننا ذلك بالفعل، لكن بفضل الله لم يطلق أحدنا طلقة علي الجانب الآخر، بل إننا خوفاً من استخدام السلاح ضد بعضنا كنا نفضل تسليم سلاحنا لجهة محايدة، لتنظيم صديق لكلينا نرتضيه وسيطاً، لقد ترأس جانبـَـيْ خلافنا الشريف كلٌّ من الشهيدين/ أحمد ناصر والدكتور بيني كداني من جهة وابراهيم محمد علي والشهيد/ سيوم عقباميكائيل من جهة، لذلك لم يتأذَّ التنظيم الذي تعود علي حرية الرأي كثيراً من الخلاف، بل سرعان ما تبادلنا بعدها الحوار بين تنظيمينا، أذكر هذا كله للتأكيد علي حقيقة واحدة هي أن طبع أحمد ناصر الدمث لم يتغير في الحالين، حال الغضب والخلاف وحال الرضا والاتفاق، واليوم وإن كنا جميعاً موتى سابقين أو لاحقين، فإنني لا يسعني إلا أن أشهد لأحمد بحيوية الضمير والرفاقية والكرم والأريحية وقوة الصبر والتحمل، والوطنية الصادقة وعدم الدكتاتورية.
إنَّ من نعم الله علينا كمناضلين أننا رزقنا بالذرية، لذلك كان للمشاكل والمسرات العائلية حضور علي مائدة الأنس بيني أنا وزوجتي أسقدت محرتآب وابني سارون من جهة وبين الشهيد أحمد وزوجته سعاد عبد الله وابنته بـَــرَدَى من الجهة الأخرى، إلا أننا كمناضلين أيضاً لم نرو غليلنا من مرافقة ما رزقناه من ذرية لأسباب نضالية كما يعلم الجميع، بل كثيراً ما أوكلنا أو بالأحرى تركنا أمر تربية أطفالنا لرفيقاتنا الزوجات ودخلنا السجون وأطفالنا ما زالوا أيفاعاً قـُــصـَّــرْ، اعتقلنا أنا وأحمد مدة عام كامل ثم أطلق سراحه قبلي بمدة وجيزة، وكان أول ما قام به حينها السؤال عن عائلتي وتقديم أقصى مساعدة مالية ممكنة لها، علماً أنه كان هو الآخر أحوج ما يكون الي المساعدة، وهذا إن دلَّ علي شيء فإنما يدل علي كرمه الفياض وأريحيته المطلقة.
ها هو أحمد ناصر يفارقنا قبل أن ننهي مهمتنا النضالية ونوصلها الي المرفأ الآمن، لقد كنا جميعاً، أفراداً وجماعات وتنظيمات نأمل ونرنو الي اليوم الذي نسعد فيه بإسقاط الدكتاتورية في بلادنا وبناء البديل الديمقراطي الذي ينعم الجميع في ظله بالأمن والاستقرار والمساواة والحرية والعدالة وكل القيم الجميلة. لكن هذا اليوم لم يأتِ بعد، كما لا ندري أنه، أي ذلك اليوم، هل يسعدنا أم لا؟ إلا أننا في كل الأحوال لن نسأم أن يتحقق ما نصبو اليه من أهداف كريمة ولو بعد فراقنا الدنيا، إننا أو مـَــن خلفــَــنا مِــن الأجيال لا شك منتصرون إذا ما احتذينا آثار المناضلين الشهداء أمثال شهيدنا أحمد ومضينا بتفانٍ وإخلاص علي درب النضال. إن أحمد سار علي درب الشهداء أمثال رفيق نضاله الشهيد/ سيوم عقباميكائيل الذي قال يوماً: ( إن عشنا فنحن مناضلين وإن متنا فنحن شهداء )، لذلك وإلي أن يأتي يوم السعد في ارتريا فنحن علي درب شهدائنا سائرون وهذا خير وفاء لذكراهم.
شهيدنا أحمد وكغيره من مناضلي الشعب الارتري لم يستمتع بحلاوة النصر الذي تحقق بعرق ودماء ودموع أحرار وشهداء ارتريا أمثاله، فالكل إذاً، موتى وأحياء، سواسية في هذا الحرمان الانساني الذي تسببت فيه الدكتاتورية في بلادنا، لكن عزاءنا يا ناصر أنك لم تمض عـَــطـِــلاً من أوسمة النضال والشرف، فقد منحت ووشحتَ الذهب تقديراً من مناضلين أمثالك في سبيل قضية الحرية والعدالة، كما نلت كل الود والتكريم من شعبك، لترقد إذاً هانئاً رضياً، فقد قدمت كلَّ وأقصى ما تملك. إنَّ موتـَــك مُــتــَــبـَــتــِّـــلاً في محراب قضيتك العادلة لشرف يبعث علي الفخر لا البكاء والرثاء.
أيها الشهيد أحمد ظللتْ قبرك شآبيب الرحمة والغفران، بلغ تحياتنا وأشواقنا ووفاءنا لمن سبقوك من الشهداء وأخبرهم بأنك قد تركتنا مرابطين علي الدرب والنهج الذي سلكوه ولم يبخلوا عليه بالنفس والمال، وتحملوا في سبيله كل الصعاب وصعدوا وهبطوا كل الهضاب.
التعازي الحارة لأسرة الشهيد أحمد، زوجته المناضلة/ سعاد عبد الله وابنته وابنه/ بردى وعمار وجميع الأهل والأقارب، ولقيادة وقواعد جبهة الانقاذ الوطني الارترية، ولعموم معسكر المعارضة الوطنية ولسائر الشعب الارتري الأبيّ.
عاشت بلادنا حرة مزدهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى